أردوغان أمام الامتحان الاقتصادي
بقلم: خيرالله خيرالله
النشرة الدولية –
“إنّه الاقتصاد، يا أحمق”. تحت هذا الشعار انتصر بيل كلينتون في خريف عام 1992، على جورج بوش الأب في الانتخابات الرئاسيّة الأميركية. فشل بوش الأب في الحصول على ولاية رئاسيّة ثانية، على الرغم من أنّ استطلاعات الرأي العام كانت تشير قبل سنة من موعد الانتخابات إلى أنّه يحظى بتأييد نسبة 90 في المئة من الأميركيين. كان ذلك بعد نجاحه في إدارة أزمة الاجتياح العراقي للكويت.
نجحت الولايات المتحدة بقيادة بوش الأب في تشكيل تحالف دولي أخرج الجيش العراقي من الكويت، رداً على القرار الذي اتخذه صدّام حسين بتحويل بلد عربي مستقلّ إلى المحافظة العراقيّة الرقم 19.
ما حققته إدارة جورج بوش الأب على صعيد السياسة الخارجيّة كان إنجازاً بالفعل. لكنّه سقط في امتحان الاقتصاد. تبيّن أنّ ما يهم المواطن الأميركي هو الاقتصاد قبل أيّ شيء. يبدو هذا العامل الاقتصادي وراء النهج الجديد للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي تغيّرت ملامح سياسته الخارجيّة وبدأ يفكّر في التخلي عن الأحلام الكبيرة والأوهام والتعاطي مع الواقع. كان من بين هذه الأحلام إحياء أمجاد الإمبراطورية العثمانيّة.
يستعد أردوغان منذ الآن للانتخابات المقبلة في حزيران (يونيو) 2023. من الواضح أنّ عليه إيجاد طريقة لإعادة الحياة إلى الاقتصاد التركي والصحّة والعافية إلى العملة الوطنيّة التي فقدت الكثير من قيمتها في السنوات القليلة الماضية، في ضوء اعتماد خط المزايدة ولعب أدوار تفوق حجم تركيا. إنّه يستعين بالخارج للتأثير في الداخل، ويعرف خصوصاً أنّ الطريق إلى كسب ودّ الإدارة الأميركيّة يمرّ في إسرائيل. من هذا المنطلق، كانت الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو للقدس وتل أبيب لافتة.
كان لافتاً، على نحو خاص، اتفاق وزير الخارجيّة التركي مع نظيره الإسرائيلي يائير لابيد على تأجيل آخر لعودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين. يعود هذا التأخير إلى أن إسرائيل تريد التأكّد هذه المرّة من أن تركيا تعني ما تقوله، وأنّها جدّية في إعادة الحياة إلى العلاقات التاريخيّة التي ربطت بين البلدين في الماضي.
يبدو أردوغان في عجلة من أمره. يعرف جيداً أنّ القطار فاته في ما يخص خط الأنابيب الذي ينقل الغاز من المتوسط إلى أوروبا. زايد على الجميع وخلق مشكلات مع الجميع، ليكتشف أنّ ثمّة نيّة لدى دول مثل اليونان ومصر وقبرص وإسرائيل للتعاون في ما بينها من دون الرضوخ لتهديداته ومناوراته التي ارتدّت في نهاية المطاف على تركيا. تبدو إسرائيل مستعدة لتحسين العلاقات مع تركيا، لكنها تخشى تكرار ما حصل في الماضي عندما فاجأتها أنقرة بقرارات ومواقف تزعزع العلاقات. لذلك، يظهر أنّها تفضّل التريث وإخضاع العلاقات إلى مزيد من الاختبارات تثبت من خلالها تركيا مدى جدّيتها، خصوصاً في ما يتعلّق باستخدام “حماس” وغير “حماس” أداة في الضغط على إسرائيل من جهة، ومادة لمزايدات على العرب فلسطينياً من جهة أخرى. فات الرئيس التركي أن “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران سبقته بمسافة طويلة في مجال المتاجرة بالقدس وفلسطين.
تحتاج تركيا إلى تغيير جذري في نظرتها إلى المنطقة التي تجد نفسها معزولة عنها، بعدما اختارت دعم “الإخوان المسلمين” بفكرهم المتخلّف على كلّ صعيد. يظهر أنّ على رجب طيب أردوغان التفكير بطريقة مختلفة إذا كان يريد العودة إلى لعب دور إيجابي على الصعيد الإقليمي، حيث تحدث تطورات في غاية الأهمّية. على سبيل المثال، استقبل الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة قبل أيّام كلاً من رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة ورئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي اللذين كانا يزوران أبو ظبي للإعلان عن “الشراكة الصناعية التكاملية لتنمية اقتصادية مستدامة” بين الدول الثلاث. قال الشيخ محمد لدى استقباله ضيفيه “إن التغيرات التي يشهدها العالم تستدعي تعميق الشراكات الاقتصادية بين دول المنطقة العربية، وابتكار صيغ جديدة للتعاون في ما بينها، وتعزيز تكاملها واستثمار الميزات النوعية لكل دولة، بهدف تحقيق التنمية المستدامة وتقوية الاستجابة للتحديات المشتركة والأزمات العالمية وتوسيع الاعتماد على الذات، بخاصة في القطاعات الحيوية ذات الصلة بالأمن الوطني، مثل الغذاء والصحة والطاقة والصناعة وغيرها”.
هذا هو نوع التفكير الجديد في المنطقة، وهو تفكير يتجاوز كلّ العقد التركيّة والأردوغانيّة. ليس أمام الرئيس التركي سوى العودة إلى اعتماد المنطق بعيداً من أي نوع من المغامرات. لن يتمكن من تحسين الاقتصاد التركي من دون الاعتراف بأنّ بلده ليس قوّة عظمى وبأن العالم يتغيّر سريعاً ولا مكان فيه سوى للغة الأرقام والتعاون بين دول المنطقة بعيداً من الشعارات الطنانة.
باشر الرئيس التركي التفكير بطريقة سليمة عندما أعاد مدّ الجسور مع السعودية والإمارات ومع مصر إلى حدّ ما. أدرك معنى أنّه سيكون للاقتصاد دوره الحاسم كي يفوز بولاية رئاسية جديدة بعد سنة. سيعني ذلك أنّه سيكون مضطراً إلى التراجع والتخلي عن أوهام كثيرة. يبدأ ذلك بالإقرار بأن تركيا دولة من دول العالم الثالث، وأن لا مفرّ أمامها من إعادة العلاقات إلى طبيعتها مع أوروبا ومع الولايات المتحدة ودول المنطقة خصوصاً. بكلام أوضح الخيار الأردوغاني واضح. عليه تحسين الاقتصاد قبل أي شيء آخر… عليه أن يتذكّر يوماً عبارة “إنّه الاقتصاد يا أحمق”.