الحرب الأوكرانية 11 سبتمبر أوروبي
دول تعتبر "الحياد" أسلوب حكم تتخلى عنه خوفاً على سلامة حدودها
النشرة الدولية –
اندبندنت عربية – سوسن مهنا –
أعلنت فنلندا الخميس 12 مايو (أيار) الماضي، عزمها تقديم طلب للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي من “دون إبطاء”، ما لبثت أن تبعتها السويد بعد إعلان رئيسة وزرائها ماغدالينا أندرسون، 16 مايو، أنه يتعين على السويد أن تنضم إلى “الناتو” إلى جانب فنلندا المجاورة “لضمان سلامة الشعب السويدي”. ومع بداية الشهر الرابع لبدء الحرب الروسية – الأوكرانية، يبدو أن هناك تغيراً واضحاً لمواقف الدول الإسكندنافية، إذ تقترب السويد وفنلندا أكثر من أي وقت مضى من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، بالتالي تنزعان عنهما صفة الحياد الذي لطالما تميزتا به، ما يعني أن الهجوم الروسي على أوكرانيا، قد يؤدي إلى توسيع التحالف العسكري الغربي، ولطالما حاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحاشي هذا الموضوع.
وأثار الإعلان غضب الكرملين الذي وصفه بأنه تهديد مباشر لروسيا وتوعّد برد يتضمن إجراءات “عسكرية تقنية” لم يحددها، لكن مسؤولين روساً تحدثوا في السابق عن احتمال نشر صواريخ نووية في بحر البلطيق. وقال بوتين إن الأمر لن يشكل “تهديداً” في حد ذاته، لكن موسكو سترد على عمليات الانتشار العسكري في شمال أوروبا، وكان “الناتو” قد رحب ترحيباً واسعاً من غالبية الأعضاء بخطوة الانضمام، في مقابل رفض تركي لها، وقال الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ إن هذه الخطوة ستعزز أمن دول الحلف، كما رحب بها الرئيس الأميركي جو بايدن واصفاً الطلبين بالتاريخيين وأكد دعمهما بشدة، كما اقترحت فرنسا إنشاء “منظمة سياسية أوروبية” لضمّ أوكرانيا في انتظار قبول عضويتها في التكتل.
ما معنى “الحياد” أو مبدأ “النأي بالنفس”؟
يقول أوين غرين، أستاذ الأمن الدولي والتنمية في جامعة “برادفورد” بالمملكة المتحدة، “هناك تاريخ طويل لمفهوم الحياد، ولكن في النهاية، الحياد هو ما تقرره دولة ما وفقاً لمفهومها”، ويضيف، “إنه شيء شديد التنوع وخاضع للتفاوض”، لكن، بسب تعريف الدولة الحيادية، وهي الصفة القانونية لبلد ما يمتنع عن المشاركة في أي حرب أو نزاع بين البلدان الأخرى، ويلتزم مسافة واحدة من جميع الأطراف المتحاربة مع ضرورة اعتراف الدول الأخرى بنزاهة وحيادية ذلك البلد، ومن الناحية التاريخية، فإن حقوق البلدان الحيادية تضمنت عدم استخدام أو احتلال أراضيها من جانب أي طرف متحارب، وعلى استمرار العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأخرى المحايدة منها والمتناحرة، وأيضاً على حرية مواطني البلد المحايد في متابعة أعمالهم وعلى احترام عزمهم في البقاء كدولة حيادية. وفي نقاش طرحه موقع SSwissinf حول مفهوم الحياد، نشر في أبريل (نيسان) الماضي، ينقل عن المشاركين بعضاً من آرائهم، ويعتبر البعض أن “على سويسرا أن تلتزم بالحياد الصارم في كل الأوقات”، و”الحياد هو الأساس الذي قامت عليه قوة بلدنا وأسلوب معيشتها”، و”كثيراً ما يُستخدم الحياد السويسري في هذا البلد “الغربي” كورقة توت للأطماع التجارية. وكسويسريين، علينا، لذلك، أن نُمعن التفكير في الكيفية التي يمكن أن يطبق بها حيادنا مستقبلاً لأجل صالح الإنسانية”، ويشير آخر إلى أنه “اقترح تعريفاً جديداً للحياد، وهو: ألا تتخذ الحكومة موقفاً”، وبدلاً من ذلك، على “الأفراد والشركات نفسها أن تقرر الجانب الذي تنحاز إليه. فعلى سبيل المثال، ينبغي عليّ التفكير، في ما إذا كنت سأواصل شراء منتجات شركة أبل أم لا، لأن فكرة دعم الحكومة الصينية في ممارساتها المجحفة إزاء هونغ كونغ وشعب الإيغور لا تروق لي”.
دول تخلت عن حيادها
ويبدو أن الهجوم الروسي أعاد خلط سياسات الدول الأوروبية، ودفع بالعديد من الدول إلى “التخلي” عن حيادها، ومن بينها دول كانت قد انتهجت سياسة الحياد كتقليد عريق مثل سويسرا والسويد، والتي كانت، قبل الهجوم العسكري على أوكرانيا، قلقة، بعد تعرض مجالها الجوي لمجموعة خروقات من الطائرات الحربية الروسية، وكذلك تعرضت مياهها الإقليمية لمجموعة خروقات من غواصات روسية، خلال السنوات الماضية. واعتبرت القناة الثانية الألمانية “ZDF” أن “السويد تتخلى عن حيادها” بعد القرار التاريخي الذي اتخذه البرلمان السويدي، في فبراير (شباط) الماضي، بتقديم دعم عسكري لأوكرانيا، وعلقت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، على قرار الحكومة السويسرية، بالانضمام إلى العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا بالعنوان التالي، “سويسرا تنحي حيادها التقليدي جانباً”، سويسرا التي لديها أقدم سياسة للحياد العسكري في العالم، إذ إنها لم تشارك في أي نزاع مسلح خارجي منذ أن تم إقرار حيادها بموجب “معاهدة باريس” لعام 1815، ولكن، بحسب “اتفاقية لاهاي”، المادة السابعة، “لا تكون الدولة المحايدة ملزمة بمنع تصدير أو نقل أسلحة أو ذخيرة حربية لصالح أحد الأطراف المتحاربة أو أي شيء آخر قد يصلح لجيش أو أسطول”.
ما الذي يمثله إذاً ضم الدولتين الإسكندنافيتين إلى “الناتو”؟
من البديهي القول إن قرار الدولتين التخلي عن وضع الحياد الذي حافظتا عليه طوال الحرب الباردة يمثل تحولاً جذرياً في استراتيجية الأمن الأوروبي، ويقول متخصصون عسكريون إن ضمّ فنلندا والسويد إلى “الناتو” قد ينطوي على مخاطر كبيرة على موسكو وحصار سياسي وعسكري للقوات الروسية، وإذا ما وضعت صواريخ أو أسلحة متطورة للحلف الأطلسي في السويد وفنلندا، فإن الحلف بات موجوداً في الجبهات والحدود الغربية الروسية ما يعني تكبيل أيدي بوتين والسلاح الروسي إضافة إلى أن وصول صواريخ متطورة تابعة لـ “الناتو” إلى البلدين يعني اختصار وقت للدفاع الجوي الروسي على الرد، إذ إنه كلما اقتربت الصواريخ من موسكو كلما كان زمن طيران الصواريخ أقلّ، بالتالي الزمن المتاح للتصدي لها هو أقلّ، ما يعني زيادة الخطورة على العاصمة الروسية، لذلك “يتوتر” بوتين عند محاولة ضم أجزاء من أوروبا الشرقية إلى “الناتو”، ولكن بحسب باحثين، أميركا اليوم هي “المنتصر الأول” في هذه الحرب من خلال الاستفادة بتوسيع مجالها الاستراتيجي بضم كل الدول التي كانت تلتزم بموقف الحياد.
ماذا عن “الحلف” الأوروبي الجديد؟
بدأت أوكرانيا، منذ عام 2008، سعيها العلني نحو عضوية حلف شمال الأطلسي، وبدلت كثيراً من جهود الإصلاح وتطبيق المعايير المطلوبة، وكان أبرزها التعديل الدستوري الذي أُقرّ عام 2019 والذي جعل عضوية الحلف “وجهة استراتيجية” للبلد، ولكن جاءت الحرب الروسية لتؤجل أو ربما تلغي رغبة الانضمام إلى الحلف، حتى أن الرئيس فولوديمير زيلينسكي استبعدها تماماً، ولمح إلى إمكانية عودة بلاده إلى صفة “الحياد” التي كانت عليها، وتوجه في رسالة عبر الفيديو إلى المتظاهرين في العاصمة السويسرية برن، 19 مارس (آذار) الماضي، قائلاً، “أتمنى من صميم قلبي، أن يتمكن الشعب في أوكرانيا من العيش بصورة تشابه الحياة في سويسرا”، وتنقل قناة “فرانس 24” عن العميد أحمد رحال الباحث العسكري والاستراتيجي قوله، “هناك شبه إجماع أوروبي – أميركي على منع أي انتصار لبوتين الذي بات بنظر الغرب بمثابة هتلر، وهناك مخاطر كبيرة على الوجود الغربي في ظل التهديدات الروسية، وللمرة الثالثة في زمن الحرب الأوكرانية سمعنا تهديداً باستخدام الأسلحة النووية من قبل بوتين ولافروف، هذا الكلام خطير جداً، لذلك، فإن الدعوة الفرنسية اليوم تأتي بعد إجماع غربي بضرورة تكبيل الأدوات العسكرية الروسية من خلال تجمعات وتكتلات سياسية”، ويضيف الباحث العسكري والاستراتيجي، “إنشاء منظمة سياسية أوروبية جديدة تضم أوكرانيا يعني حمايتها وتصعيب أي عمل مستقبلي عسكري لروسيا ضد الدول الأوروبية. صارت أطماع بوتين واضحة، فهو يسعى إلى أوكرانيا، وغداً إلى بولندا وبلدان أخرى مثل مولدافيا، بالتالي هناك أخطار كبيرة يحملها المشروع البوتيني. لذلك، فإن المطالب الأوروبية والأميركية هي بتحجيم قدرات موسكو على التوسع لإعادة الاستقرار إلى المنطقة. من الواضح أن بوتين وضع كامل الدول الأوروبية على صفيح ساخن، بالتالي أعاد سيناريو أو مسببات الحرب العالمية الثانية”، وإذا ما كان الرئيس بوتين سيرد، يعلق رحال، “يعتبر بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف أي مساعدة غربية لأوكرانيا بمثابة إعلان حرب، وكل الدعم الغربي المقدم في مجال الدفاع للرئيس زيلينسكي هو نوع من الاستفزازات لروسيا”، ويتوقع أن تزداد نبرة التصعيد الروسي على لسان لافروف وسيرغي شويغو (وزير الدفاع الروسي) وبوتين، لكن اتخاذ قرار بشن هجوم (على الغرب) سيكون في إطار ضوابط أهمها، أن الطبقة السياسية والاقتصادية المحيطة ببوتين بدأت تشعر بأنه أصبح يشكل عائقاً لها، وقرار شن هجوم أو استخدام أسلحة أو صواريخ نووية ضد الغرب يمكن أن يؤدي لمقتل بوتين لأنهم لن يسمحوا بهذا التطور وبعقلية بناء إمبراطوريته التي ستشكل دماراً للعالم كله. بالتالي قد تستمر لغة التهديدات “إنما لا أتوقع أن تذهب الأمور إلى صدام عسكري”.
11 سبتمبر أوروبي
في تقرير لـ Project SSyndicat نشر في أبريل الماضي، ومركزه براغ العاصمة التشيكية، يتحدث عن 11 سبتمبر (أيلول) أوروبي، بعنوان “ماذا يعني توسع حلف شمال الأطلسي شمالاً”؟ ويقول، “في حين لا تزال النتيجة المحتملة للحرب التي يشنها فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا غير واضحة، فإن العدوان الروسي تسبب بالفعل في تغيير النظام الأمني الأوروبي بطرق بالغة الأهمية، وتنحصر المقارنة التاريخية الوحيدة بالوضع الحالي في غزو هتلر بولندا في سبتمبر 1939، تضمنت كل من الحالتين هجمات غير مبررة واسعة النطاق على بلد مجاور بهدف إزالته من الوجود، رفض هتلر قبول وجود بولندا المستقلة، وبوتين يرفض قبول حقيقة أوكرانيا المستقلة، ويعتبر أن معظم الحكومات الأوروبية كانت لا تزال تعتقد أن الدبلوماسية من الممكن أن تنتج علاقة أكثر استقراراً، ثم تحطم ذلك الوهم في 24 فبراير، وهو اليوم الذي أصبح معادلاً لـ 11 سبتمبر في أوروبا”.
ويعتبر التقرير أن ذلك الحدث بمثابة “نداء إيقاظ جيوسياسي عالمي” ينطوي على عاقبتين رئيستين، أولاً، سيزداد الإنفاق العسكري في مختلف أنحاء أوروبا، فبعد سنوات من التثاقل والتقاعس، وعلى نحو مفاجئ، اتفق جميع أعضاء حلف شمال الأطلسي، الأوروبيين تقريباً، على هدف إنفاق ما لا يقل عن اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، فقررت ألمانيا، صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، إضافة ما يعادل 0.5 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي إلى إنفاقها الدفاعي في غضون عام واحد فقط، وثانياً، ستتعزز قوة “الناتو” من نواح عدة، فبالإضافة إلى زيادة وجوده العسكري في البلدان الأعضاء المجاورة لروسيا، يستعد الحلف لإضافة فنلندا والسويد إلى صفوفه.
ويتابع التقرير، “لقد خلق يوم 24 فبراير موقفاً أمنياً جديداً تماماً لفنلندا والسويد، لأنه أظهر، بين عشية وضحاها، أن روسيا أصبحت أسيرة نظام لا يتورع عن استخدام القوة العسكرية لفرض مخططاته الإمبراطورية على أوروبا، ولأن فنلندا خاضت حرباً ضد الاتحاد السوفياتي خلال الفترة 1939-1940، وكانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية طوال قرن من الزمن قبل عام 1917، فقد أقنع غزو أوكرانيا قادة فنلندا على الفور بضرورة السعي إلى الالتحاق بعضوية الناتو”.
إن انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف الأطلسي من شأنه أن يؤدي إلى تغيير البنية الأمنية الأوروبية على وجهين مهمين، فأولاً، ستكتسب دول شمال أوروبا القدرة على تنسيق قوات دفاعية كبيرة على مستوى المنطقة، وسوف تزود السويد وفنلندا “الناتو” بقدرات جديدة مهمة، كما أوضحت بالفعل تدريبات القوات الجوية المنتظمة التي تجريها مع النرويج، علاوة على ذلك، سيكتسب “الناتو” المزيد من القدرة على السيطرة على بحر البلطيق، بالتالي دعم الدفاع عن إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، ويصف قادة روسيا مشروعهم الإمبراطوري على أنه “صراع حياة أو موت”، وبأخذ هذا التوصيف على محمل الجد، لم تعد فنلندا والسويد تنظران إلى عضوية “الناتو” على أنها اختيار استراتيجي، ومنذ 24 فبراير أصبحت العضوية حتمية وجودية.