“بلدربيرغ” وإعادة الاصطفافات
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

يوم الأحد الماضي، اختُتمت في فندق الماندارين بواشنطن اجتماعات ”بلدربيرغ“ السنوية المغلقة، في دورتها الـ68 والتي دامت 3 أيام..

وكالعادة، لم يصدر عن الاجتماع أي بيان ختامي، واكتفى الصحفيون المُسْتبعَدون بالحراسات الأمنية، بتصوير السيارات الفارهة وهي تغادر بوابة الفندق وعلى متنها حوالي 120 شخصية عالمية فائقة التنفّذ السياسي أو المالي.

تجمّعهم المغلق يغري الصحفيين على استسهال توصيف الاجتماع والمنتدى بأنه الحكومة العالمية السرية التي تجسد نظرية المؤامرة.

ولكثرة ما جرى استخدام هذا الوصف ونفيه (وكلاهما الوصف والنفي يبدوان غير دقيقين)، فقد غاب خبر اختتام المؤتمر عن قائمة الأخبار الرئيسة.

وحدها ملاحظةُ الفرق اللافت في ترتيب بنود الاجتماع الأخير لعام 2022، مقارنة بالاجتماع الـ67 الذي سبقه (العام 2019)، هي التي يمكن أن تشكّل الخبر.

غاب الاجتماع السنوي الوجاهي لهذا المنتدى لمدة عامين بسبب وباء كورونا.. وعندما عاد هذا العام كان وباء كورونا، والغزو الروسي لأوكرانيا، مستجدّين بتوزين استثنائي وآثار عميقة بعيدة المدى على ”النظام الاقتصادي العالمي“، الذي هو صُلب اختصاص بلدربيرغ، على نحو فرض نفسه في جدول أعمال مؤتمرهم الأخير.

تشكيلة الحضور في الاجتماع المغلق الذي انفض قبل 4 أيام، تتحرش بالمخيّلة؛ رئاسته أُعطيت هذه الدورة للأمين العام لحلف شمال الأطلسي، العضو المزمن في الملتقى، ينس ستو لتنبرغ، لكن برمجة جدول الأعمال كانت من ولاية مدير المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز.

أصحاب ”نظريات المؤامرة“ يمكن أن يجدوا في بعض التفاصيل ما يسعفهم؛ فويليام بيرنز، كان اختير لعضوية لجنة التسيير والتوجيه في بلدربيرغ، قبل بضعة أشهر فقط من تكليف الرئيس جو بايدن له بمنصب مدير المخابرات المركزية، وبأهلية أن يكون وزير خارجية الظل في الإدارة الأمريكية.

حضر بلدربيرغ الـ68 أربعة رؤساء مخابرات آخرين نافذين: رئيس مركز الاتصالات الحكومية في بريطانيا، ومدير وكالة المخابرات الفرنسية، ومستشار بايدن للأمن القومي، ورئيس وكالة الأمن السيبراني والبنية التحتية الأمريكية.

وفي نفس التشكيل المخابراتي للاجتماع، كان رؤساء سابقون للمخابرات مثل ديفيد بترسن، والسير جون ساويرز (m16) وهو حاليًا رئيس شركة بي بي للبترول.

في التشكيلات الأخرى غير الاستخبارية للاجتماع، بالإضافة لهنري كيسنجر الذي لم يغب مرة واحدة عن الاجتماعات من 1957، ولعشرات القيادات المصرفية والمالية والسياسية، كان ضمن لجنة التسيير الرئيس السابق لغوغل (إريك شميدت)، وقياديون عتاة في الذكاء الصناعي من شركات فيسبوك، وديب مايند.

متحدث وحيد نشأ بلغة أم عربية، كان في الاجتماع هو سليمان مصطفى، المدير التنفيذي لشركة Bel المتخصصة بالذكاء الصناعي.. كان بينهم أيضًا مسؤولون كبار صينيون، والصحفي التركي ياردا غول.

واضح أنهم لا يتحسّبون للتفشي الاستخباري، فلا يتم في الاجتماعات تصويت على أي قرار، ولا إصدار أي توصيات، ربما لأن مستخلصات هذه النقاشات (العصف الذهني) تتولاها المؤسسة العميقة التي ترعى هذا المنتدى والمحسوبة (اختصارًا) على ديفيد روكفلر.

فقط الشرط الأخلاقي الوحيد المطلوب من الحضور هو عدم نشر أي شيء، وعدم نسب أي رأي أو قول لشخص كان موجودًا في الاجتماعات السرية.

وهو شرط أكاديمي استخباري أخذته بلدربيرغ من مركز تشاتم هاوس للدراسات البريطاني، المعروف بنسبه للدولة العميقة ولمؤسسة العرش البريطاني التي طالما رعت مناهج عمل مؤسساتية تستلهم الإرث الإمبراطوري (رغم انتهاء صلاحيته)، وجعلته قاعدة تعامل أصولية في العلاقات التحالفية مع الولايات المتحدة من جهة، وفي العداء الجيني لروسيا سليل الاتحاد السوفيتي والإمبراطورية الروسية من جهة أخرى.

تأسيس بلدربيرغ أواسط خمسينيات القرن الماضي معروف أنه كان جزءًا من تشكيلات الحرب الباردة، شاركت فيه المخابرات الأمريكية والبريطانية ليأخذ شكل الطاولة المستديرة المطلوب، منها استقطاب النافذين سياسيًا وماليًا ممن يستطيعون إعادة توجيه الحياة اليومية في العالم..

مثلهم في ذلك مثل عشرات المؤسسات المدنية التي تصنع الرأي العام وتوجهه بحسب مقتضيات ”النظام الاقتصادي العالمي“ المتحرك، وهو النظام الذي يجري تصنيعه واعتماده في مكان آخر.

المخابرات صنعت فكرة وهيكلة بلدربيرغ وتركت رئاستها وإشهارها، آنذاك، للأمير بيرنهارد (الأسرة الحاكمة في هولندا)، لكن بعد تربّحه من فضيحة لوكهيد، تنازل لرئيس الوزراء البريطاني دوغلاس هيوم وبقي المنصب قيد التناوب إلى أن انتهى تقريبًا عند الأمانة العامة لحلف الأطلسي.

لا يُخفي كهنة بلدربيرغ، مثل روكفلر وكيسنجر، أنهم يصنعون الرؤساء في الولايات المتحدة وبريطانيا.

قصتهم في توصيل مارغريت تاتشر لرئاسة الحكومة البريطانية معروفة: التقت بهم في المؤتمر، العام 1975، انبهروا بها فأوصلوها للحكم العام 1979.

ومثلها بيل كلينتون، كان حاكمًا متواضعًا لاركنساس عندما شارك في بلدربيرغ، العام 1991، وبعد ذلك بسنة، صار رئيسًا للولايات المتحدة.

والأمر له مثيل مع توني بلير وأوباما، ليس لأن بلدربيرغ حكومة سرية للعالم، وإنما لأنها طاولة حوار تعتمد السرية في اجتماعاتها لضمان الاستفاضة دون حرج في قراءة الراهن واستقراء المستقبل.

في اجتماع 2019، في مدينة مونترو بسويسرا، كان الحديث الشائع في الإعلام ومراكز الدراسات يتكهن بنظام عالمي جديد ينهي مرحلة العولمة، وكان يقال إن بريكزت بريطانيا ومجيء دونالد ترامب هي إشارات للتغيير، لكن البند الأول في اجتماع بلدربيرغ كان يرى خلاف ما هو شائع؛ فقد نصّ على ”نظام عالمي إستراتيجي مستقر“ .

البند الثاني كان يتساءل عن القادم الغامض بالنسبة للاتحاد الأوروبي.. عرض البرنامج (من 11 نقطة) لروسيا والصين، وتغيّر المناخ، ومستقبل الرأسمالية، وما أسموه ”عسكرة السوشيال ميديا“، لكنهم أسسوا لما أصبح الآن يُعرف بأنه الميكانيزم الأممي الذي سيحكمه الذكاء الصناعي.

حتى إذا غاب الاجتماعي السنوي الوجاهي لبلدربيرغ لمدة عامين بسبب الوباء، وجاء اليوم للانعقاد في ذروة حرب أوكرانيا، كانت الدنيا تغيّرت جذريًا، ولذلك، أعاد الاجتماع برمجة أولوياته ليصبح البند الأول مخصصًا لـ“إعادة الاصطفافات الجيوسياسية“.

فتحتَ مثل هذا البند يصعب التصور أن موضوع الطاقة، ونفط الشرق الأوسط، لم يكونا موضع قراءة لجهة ”إعادة الاصطفافات“ خاصة بعد أن اضطرت الرئاسة الأمريكية إلى أن تعيد برمجة أولوياتها في الشرق الأوسط، وتعود للتحالفات التي ظلت تقوم على قواعد تقليدية معتمدة منذ خمسينيات القرن الماضي.

لكيسنجر في موضوع إعادة برمجة الاصطفافات الدولية تحت ضغط الحاجة والقوة مقولة معروفة ”مَن يملك النفط يتحكم بالدول.. ومَن يملك الطعام يتحكم بالناس.. ومَن يملك المال يتحكم بالعالم“.

 

Back to top button