محمد كعوش يختزل 60 عاماً في مهنة المتاعب
عقارب الوقت نهشتْ من جسده فعاد ليكتب ما يريد عن رحلته
النشرة الدولية –
الجريدة الكويتية – حمزة عليان –
يختزل كتاب «محمد كعوش… بوَردة أو على جناحَي فراشة» مشواراً طويلاً في مهنة المتاعب.
بعد وفاة الزميل محمد كعوش، قررت زوجته، هدى السرحان، إضافة بعض الفصول إلى الكتاب، بعد أن اختار بنفسه بعضاً من مقالاته التي حدثتني عنها أثناء إعداده له قبل سنة أو أكثر من رحيله، وكان أحد الذين زاملتهم في مجلتَي الحوادث والدستور في بيروت، ثم صحيفة القبس بالكويت.
أكبرتُ وقفة الوفاء التي أقدم عليها أصدقاؤه، وعلى رأسهم نقيب أصحاب المطابع سابقاً، المخرج الفني والخطاط الذي عرفته الصحافة اللبنانية، الزميل نزيه كركي، الذي تكفّل بطباعة الكتاب وتوزيعه مجاناً، بمقر نقابة الصحافة اللبنانية في بيروت الأسبوع الماضي.
امتدت تجربة كعوش الصحافية على مدار 60 عاماً، تنقل فيها من بيروت إلى عمان، ثم الكويت وإيطاليا، والعودة إلى عمان في نهاية المطاف.
اشتغل في عدد من الصحف والمجلات، وتبوأ مناصب قيادية في «الحوادث» و»الدستور» بلبنان، ومجلة الحصاد وجريدة الأخبار و»صوت الشعب» و»الرأي» و»العرب اليوم» في الأردن، و»الأيام» في إيطاليا، وفي الكويت «الرأي العام» و»القبس».
لغة جريئة وصادقة
يضمّ الكتاب 4 مجموعات، وتحت كل مجموعة جملة عناوين من أكثرها جذباً ما نشره من مقالات لم تنشر من قبل، بلغت 13 عنواناً، تحدث فيها عن طفولته وتجاربه، بلغة صادقة وصريحة لم يستطع البوح بها من قبل.
لقد غافله الزمن، فنهشت عقارب الوقت من جسده الكثير، إلى أن قرر العودة إلى أول الكلام والطريق، كي يقول ما يحب أن يقوله، بعدما كتب كل شيء إلا الذي أراد أن يقوله ويكتبه، وبعد أن أغلق الهاتف وغادر مكان عمله في الجريدة، أسدل الستار على مرحلة امتدت أكثر من 50 عاماً كان فيها عاشقاً لمهنة يتعبّد في محرابها وراح يروي.
يعترف كعوش بأنه ترك العمل لسببين؛ الأول، استمرار تدخّل الناشر في شؤون التحرير، وهو ما كان يرفضه، والثاني التفرغ لكتابة الأدب الإبداعي، وبالتحديد الرواية، حتى أن أحد أصدقائه قال له: أنت شاعر تُهت إلى الصحافة.
جحود ونكران الزملاء
وهو يعيش تلك اللحظات، قام بزيارة أصدقاء له في مهنة الصحافة، فقوبل بحالة من النكران والجحود وعدم الوفاء من زملاء عمرهم الافتراضي أقل بكثير من عمره المهني، ويبدو – كما يصف شعورهم – بأن تلك التجربة الطويلة التي ينتمي إليها «فائض عن الحاجة»، ليعود أدراجه مهزوماً، ويكتشف الحقيقة التي تقف وراء تراجُع الصحف الورقية أمام الصحافة الإلكترونية بأن الزمن توقّف على أبواب هذه الصحف، ولم تعد بقياداتها الراهنة وكوادرها قادرة على التطوّر والتجدد، وإيجاد سبل حديثة لمواجهة التحديات الجديدة.
يقرر كعوش العودة إلى الكتابة، لأنّها تمنحه القدرة والأمل وليثبت أنّه حي، ومازال قادرا على البقاء والدهشة والكتابة والوصول إلى وعي الناس حتى آخر دقيقة من الزمن، وبلا ندم.
قهوة للسرطان
برع بتصوير لحظات الانتظار، وهو يعالج في مركز الحسين للسرطان بين حشد من المرضى، والطابور الطويل من الموجوعين، حين تنتابه مشاعر غريبة غير مألوفة، فيها مزيج من الشفقة على الذات، بقدر ما فيها التعاطف مع وجع الآخرين.
في تلك اللحظة أحسّ بأنه بحاجة إلى البحث عن وردة العمر قصد النجاة، أو أغنية لفيروز تمجّد الحياة، في معركته التي يخوضها ضد الألم والحزن والقلق، ثم ينقل القارئ في سردية المرض إلى اللحظة التي نطق فيها الطبيب النتائج المبشّرة بالتفاؤل، معلنة قهره للمرض، لينظر عبر نافذة العيادة في الطابق الثامن، ينتابه شعور بأنه سيطير على جناحَي فراشة».
دروس تعلّمها
روى أول درس تعلّمه في مدرسة مجلة الحوادث في بيروت، والتي عمل فيها أوائل الستينيات، والنصيحة التي أسداها إليه الأستاذ سليم اللوزي بأن يكتب السياسة بلغة الأدب، والدرس الآخر أن يحوّل القضية السياسية عندما يكتبها إلى قصة، فالإنسان بطبعه يحبّ القصة.
أما الدرس الثاني الذي تعلّمه على يد نقيب الصحافة، زهير عسيران، فهو انتماؤه إلى مدرسة بالصحافة ترى تقديم المصلحة الوطنية على السبق الصحافي.
وفي البوح بذكريات لم تُنشر عن مرحلة الطفولة، حمله الحنين إلى الحلم الأول، وهو ذاك الطفل المولود قبل نكبة 1948 من قرية تغفو على كتف جبل الجرمق الأعلى في فلسطين، وصار اسمها «ميرون»، وهي قرية صغيرة تعانق في علّوها مدينة صفد، عروس الجليل.
طفولة معذّبة واعترافات
طفولته المعذبة تشبه طفولة الكثيرين من أطفال فلسطين الذين اختطفتهم النكبة إلى المنفى، فكان ذاك الطفل الذي مشى على الشوك والحصى، حافي القدمين على درب الآلام من «ميرون» بفلسطين إلى «بنت جبيل» في جنوب لبنان، كان يمشي مع الجموع وينظر إلى الوراء، فيرى قريته تبتعد عنه، بقدر ما يبتعد عنها، حتى ضاق الأفق.
تجاوز الأعراف التقليدية في كتابة المذكرات، وابتعد عن التقليد، وقرر الدمج بين سرد الذكريات وبين ما يتعلّق بالحدث.
سجّل قناعته بأن «هزيمتنا كانت ولا تزال بسبب عدم فهم الصهيونية كحركة سياسية فكرية عنصرية، وكمشروع اقتصادي استعماري استيطاني مدعوم من الغرب».
تحدّث عن إشكالية العلاقة اللبنانية – الفلسطينية والتداخل بين الشعبين وارتدادات نكبة 1948 على الداخل اللبناني وتركيبة الطوائفية.
استقراره في بيروت
روى، من الذاكرة، حكاية يعرف تفاصيلها عن كثب، وكان لها الأثر الكبير في العلاقات اللبنانية – الفلسطينية، عندما اتهمت السلطات اللبنانية عام 1957 ابن عمه جلال كعوش بنسف السفارة الفرنسية في بيروت، دعماً للثورة الجزائرية، وقامت باعتقاله ومحاكمته، وإرساله إلى سجن بعلبك، وبعدها بعام انفجرت الأوضاع الأمنية (ثورة 1958)، حينما تمّت مهاجمة السجن وإحراقه وإطلاق سراح كل مَن فيه، ومن بينهم جلال، الذي هرب إلى دمشق.
في الصحافة اللبنانية التي استقر فيها، كانت مجلة الحوادث هي مدرسة الصحافة التي تعلّم منها وفيها الكثير، فقد انتقل هو وعائلته من «مخيم المية ومية» إلى بيروت، ليتقدّم في مناصب تولاها، مدير تحرير، وهو منصب لا يحتله سوى صحافي نقابي لبناني، وكان الصحافي العربي الوحيد الذي أصدر له النقيب ملحم كرم كتاباً يسمح له العمل في الصحافة اللبنانية.
شهادته بالكويت
الكتاب يحتوي على نصوص لم تنشر (13 مقالا)، ودفاعاً عن الحلم (41 مقالا)، وأقمار مشرقة (10 مقالات) وفصل كتبه مجموعة من أصدقائه وصفحات مصورة.
عن الكويت يقول إنه لم يكتب عنها منذ أن غادرها عام 1984، لكنّه عاد ليكتب عنها بعقلانية واقعية، فقد نجحت في الحفاظ على اعتدالها، خصوصاً في تعاملها مع التطورات داخل البيت الخليجي الخاص، وكذلك في البيت العربي العام، وما يميّزها أنها دولة برلمانية فيها من الحياة الديموقراطية ما يكفي لبناء مؤسسات حقيقية.
مذكرات الزميل كعوش، أشبه بجولة بانورامية أخذنا فيها مع رحلاته الشاقة ومتاعب المهنة التي لا تنتهي.
صدر الكتاب عن «دار الخلود للصحافة والنشر» في بيروت، وبدعم من المهندس سمير عبدالهادي، وتقديم الشاعر الأردني يوسف عبدالعزيز.
كان واحداً من جيل الصحافيين العرب الذين نهضوا في الخمسينيات اقتربت منه المناصب حتى لامست كتفيه، وهو زاهد فيها، قابض على جمر صفد، و»فلسطين تسكن خلاياه»، كما وصفه صديقه وزميله الفنان التشكيلي الأردني محمد الجالوس.