“أبوالعرّيف” ينشر الجهل عبر ميكروفون تويتر
ميكروفون تويتر أصبح الحنجرة العميقة والمتاحة لكل من هب ودب، على امتداد ساعات الليل والنهار، وعلى بعد ضغطة زر.
النشرة الدولية –
العرب – يمينة حمدي –
ربما يكون الكثير من أصدقائنا وأقاربنا وزملائنا في العمل، حاملين لجينات “أبوالعرّيف”، ذلك الشخص الذي يدعي أنه يعرف كل شيء عن أي شيء، ويملك الإجابات على جميع الأسئلة المستعصية، ويخوض كل النقاشات والحوارات. ولا يكل ولا يمل من أساليب الكذب والخداع، لإثبات براعته وقدرته على الإلمام بالمعارف والتجارب، ومع أنه لا يمكن الافتراض بأنه يعرف كل شيء، لا يتقبّل فكرة أن هناك الكثير من المعلومات تتخطى قدراته الذهنية كإنسان.
يمينة حمدي
اكتشفت مؤخرا، بعد أن وجهت لي بعض الدعوات للمشاركة في مساحات صوتية على موقع تويتر، أننا إزاء حقبة جديدة من الجهل في العصر الحديث، يساهم في تشكيلها “أبوالعرّيف” الذي تكاثرت جيناته بشكل سريع في مساحات تويتر، وبدأت تستحوذ على وقت واهتمامات الناس وتشحن عقولهم بالأكاذيب والمعلومات المغلوطة والمظللة، بعد أن أصبح ميكروفون تويتر الحنجرة العميقة والمتاحة لكل من هب ودب، على امتداد ساعات الليل والنهار، وعلى بعد ضغطة زر.
من غير المستبعد أن يتحول اللجوء، إلى مثل هذه المساحات إلى هاجس مسيطر على معظم رواد تويتر وممارسة إدمانية، تؤثر بشكل سلبي على حياة الناس وأفكارهم ومداركهم العقلية والنفسية، وربما تكون أكثر ضرراً نتيجة ما يتعرضون له فيها من توتر وسب وشتم وصراع من أجل قضايا حقيقية وأخرى وهمية، وكل ذلك قد يرفع مستوى ضغط الدم، ويزيد من مخاطر الإصابة بمجموعة كاملة من الأمراض.
لكن المشكلة الحقيقية، تكمن في أن سلالات “أبوالعرّيف” التي ترفض أن تمارس دور المستمع وتطلب بشكل دائم الميكروفون من صاحب المساحة الصوتية، لتخوض في مثل هذه الحوارات، في معظمها شخصيات على ما يبدو وهمية، وليس لها بصمة واضحة على الإنترنت، بل هي مجرد حسابات بصور وأسماء مستقاة من عالم الحيوان والإنس والجان والخيال، وسماتها واختصاصاتها الأكاديمية والمهنية المدونة لا علاقة لها في غالب الأحيان بواقعها الحقيقي، بل تمثل جزءاً مصغرا من مجموعة أكبر من شخصيات خفية، غايتها نشر الجهل بشكل متعمد في مساحات تويتر الصوتية.
الجهل ليس فقط عدم المعرفة، ولكنه حيلة، واستراتيجية متعمدة يسلكها أصحاب المصالح، عندما يحاول الكثير من الناس فهم حقيقة ما أو فكرة أو البحث عن أجوبة على أسئلة معينة
ربما يفسر البعض ذلك على أنه طبيعي، فالكثيرون يفضلون الأسماء المستعارة، حتى تكون لديهم ذات عامة يعيشون بها في الواقع وبين الأسرة والأهل والأصدقاء وزملاء العمل، وذات أخرى افتراضية خاصة بهم، تمنحهم حرية التعبير عن مشاعرهم وضغائنهم وكراهيتهم، بعيدا عن الحسيب والرقيب.
لكن مثل هذا الأمر، قد شجّع أيضاً سلالالت “أبوالعرّيف” الافتراضية بأسمائها الوهمية- بعد أن وجدت في مساحات تويتر أرضية خصبة- على السيطرة على معظم المواضيع المطروحة، ويبدو أن بعض المجالات يلائمها أكثر من غيرها، مثل العلاقات الاجتماعية والزوجية والمواضيع السياسية والدينية، وكلما كانت المواضيع عامة وجدت سلالات “أبوالعريف” الطريق أمامها مفتوحا، للخوض في جميع المجالات التي لا توجد فيها ضوابط معينة أو قواعد علمية محددة.
الغريب! أن الكثير من رواد هذه المساحات يطلبون استشارات في العلاقات الزوجية والمشاكل الأسرية والنفسية والصحية من تلك الشخصيات الوهمية، التي تدعي أنها تفهم كل شيء وتقدم نصائح فعالة، وحلولا وأجوبة على جميع المشاكل، لكن تلك النصائح يمكن أن تتسبب في مشاكل أكبر، ويكون لها تأثير عميق على حياة الناس، حين يصدقون ما يقوله أصحاب الخبرات المزيفة.
مثل هذه الأمور قد تبدو أقل أهمية من أن يتم التعليق عليها، ولكنها يمكن أن تفضي إلى نشر الجهل بطريقة مستترة ومتعمدة، عبر النصائح غير النابعة من مُنطَلق علمي أو خبرة واضحة، والرسائل الموجهة إلى شريحة بعينها من المجتمع.
الجهل ليس فقط عدم المعرفة، ولكنه حيلة، واستراتيجية متعمدة يسلكها أصحاب المصالح، عندما يحاول الكثير من الناس فهم حقيقة ما أو فكرة أو البحث عن أجوبة على أسئلة معينة، من غير مصادرها الحقيقية والموثوقة.
وفي مساحات تويتر الصوتية وجد “أبوالعرّيف” فرصته ليصبح خطيبا وعالما وطبيبا ورجل دين ومفسر أحلام ومفكرا ومنجما وفيلسوف عصره وزمانه، ما ساهم في نشر الجهل عن قصد وتخطيط، والأسوأ أن أصحاب المساحات الذين يظهرون بشخصياتهم الحقيقية قد وقعوا في أفخاخ “أبوالعرّيف”، ومنحوه الميكرفون لإشاعة الجهل عن سبق إصرار وتعمد.
غير أن سلالات “أبو العرّيف”، لا ترسم صورة كاملة عن مساحات الرأي الافتراضية وأهميتها في حياتنا العصرية، ودورها في تبادل الخبرات المعرفية والعلمية، لكن بشرط أن يمنح المايكروفون لشخصيات حقيقية وليست وهمية.