تغيّر الزمان لم يغيّر التعاطي مع تجسيد المقدسات سينمائيا
"سيدة الجنة" مرفوض ومتهم بالإساءة لابنة النبي محمد
النشرة الدولية –
العرب – حنان مبروك –
يقدّس المسلمون رموزهم الدينية، لكن هذا التقديس ينسحب أيضا على العشرات من الشخصيات التي تعد من أهل بيت النبي محمد وصحابته، ورغم تحرر الفكر نوعا ما إلا أنهم ما زالوا يعارضون تجسيد مقدساتهم، وإن كان تجسيدا يحترم الخصوصية والضوابط الدينية، لذلك ينتفض آلاف من المسلمين الآن ضدّ عرض فيلم “سيدة الجنة”.
ليس غريبا على السينما العالمية تناول المقدسات على اختلافها، لكنها بينما تتطرق إلى بعضها بهدوء وعمق، يصطدم بعضها الآخر بالرفض، فرغم أن الغرب تحرر منذ عقود من وصاية الدين والتقييمات الأخلاقية على السينما، لا يزال العرب والمسلمون خاصة مقيدين في دائرة الممنوع والمسموح، الحلال والحرام الذي يحللونه ويحرمونه بأنفسهم بناء على تقديسهم لبشر مثلهم، مقربين من نبيهم.
وجعل هذا التقديس من قصص وحكايات آل بيت النبي محمد وصحابته ترتقي إلى المقدسات الدينية إن لم تكن بالفعل كذلك في العقل المسلم، فصار حتى الخوض فيها بالحديث والدراسة والتصوير السينمائي محرما ومرفوضا ويثير غضب الجميع، حتى وإن احترم التصوير معايير مشددة كأن يمتنع عن تجسيد هيئة الأنبياء والرسل وآل البيت والصحابة، وكأنهم من البداية ليسوا بشرا. وعلى المسلم في المقابل أخذ ما ذكر عنهم كروايات مسلمة ومنزلة من السماء.
ومنذ الأسبوع الماضي يعيش العالم على وقع موجة غضب واسعة ضدّ فيلم “سيدة الجنة” الذي يتطرق ضمن سيرورة أحداثه إلى فاطمة الزهراء ابنة النبي محمد، وزوجها الصحابي علي بن أبي طالب.
ورغم عدم مشاهدتهم للفيلم أو حتى جزء منه، تظاهر آلاف من المسلمين البريطانيين خارج دور عرض “سيني وورلد” فأجبروها على إلغاء العروض المبرمجة للفيلم، ووقع أكثر من 120 ألف شخص على عريضة تطالب بسحب الفيلم من جميع دور السينما في جميع أنحاء البلاد، وتسكن هؤلاء المخاوف من المسّ بأي مقدسات، رغم أن الكثير منهم كحال الآلاف من المسلمين، مسلمون بالوراثة ولا يفقهون من أمر دينهم شيئا، وربما لا يعرفون شيئا عن هذه “الشخوص” التي جعلوها مقدسة وفي منزلة الله ورسوله.
واستنكرت العديد من المؤسسات الإسلامية في الدول العربية بشدة ما ورد في الفيلم من مسّ بمشاعر المسلمين، واتهم مؤلف الفيلم الشيعي بأنه يقود حملة شيعية للمس بالمقدسات، وعاد المسلمون مجددا إلى مربّع الصراع بين سنة وشيعة.
بين الرمز والحقيقة
تدور أحداث الفيلم المثير للجدل، وهو من إخراج إيلي كينغ، بين الماضي والحاضر، حيث ينطلق من مشاهد تصوّر هجمات لتنظيم داعش على العراق، تؤسس للتطرق إلى قصة فاطمة ابنة النبي محمد.
وتبدأ أحداث الفيلم بمشهد قتل امرأة عراقية تدعى فاطمة، أمام عيني ولدها الطفل، على يد تنظيم داعش الإرهابي، بعد ذلك ينقله أحد الشبان إلى منزله في بغداد للعيش معه، وهناك يعيش الطفل مع جدة الشاب التي تبدأ بسؤاله عن حياته ووالدته المقتولة، ليخبرها باسمها. وتبدأ الجدة في سرد القصص التاريخية لفاطمة ابنة النبي والملقبة بسيدة نساء أهل الجنة.
وتحظى فاطمة الزهراء بالتقديس لدى المسلمين على اختلاف مذاهبهم، لكن هذا الاختلاف جعلهم يتبنون روايات كثيرة ومتنوعة عن حياتها وموتها، ومن هذه الروايات الرواية الشيعية التي تقول إن فاطمة قتلت في حادثة “كسر الضلع” التي حدثت مع اقتحام الخليفة الثاني للمسلمين عمر بن الخطاب لمنزل زوجها علي بن أبي طالب.
ويصور الفيلم فاطمة الزهراء على أنها الضحية الأولى “للإرهاب” إن صحّ التعبير، وهي تشبه فاطمة العراقية التي قتلت أمام نظر ابنها الطفل، وتشبه الكثير من النساء اللواتي ذهبن ضحية بطش الحكام والرجال.
كما يتطرق فيلم “سيدة الجنة” إلى الأحداث التي أعقبت وفاة النبي واختيار أبي بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين، لكن بطريقة مخالفة تتبنى الرواية الشيعية، بالإضافة إلى تصوير مشاهد عن الاعتداء على بيت السيدة فاطمة بعد وفاة والدها، أساسا إحراق منزلها وضربها.
الفيلم ينطلق من مشاهد تصوّر هجمات لتنظيم داعش على العراق تؤسس للتطرق إلى قصة فاطمة ابنة النبي محمد
ولم يُصور المخرج إيلي كينغ الشخصيات المذكورة في الفيلم على أنها حقيقية، ولم يتم تجسيدها على هيئة بشرية، وإنما التزم بالتقاليد الإسلامية، فلم يمثل أي فرد شخصية مقدسة في العمل، لحرمة تمثيل الشخصيات المقدسة في الأفلام والمسلسلات بالنسبة إلى جموع المسلمين.
وصوِّرت الشخصيات “المقدّسة” بتقنيات سينمائية حديثة كاستخدام تأثيرات الكاميرا والإضاءة والمؤثرات المرئية، واكتفى المخرج بإظهار جزء من أجسادهم، أما بالنسبة إلى الوجوه فأظهرها على شكل نور ساطع.
وجسد بطولة فيلم “سيدة الجنة” كل من غابرييل كارتيد في شخصية ليث لانراوي، وراي فيرون في شخصية أبوبكر الصديق، ومارك أنتوني برايتون في دور عمر بن الخطاب، وأوسكار سالم في دور رائد، وألباني كورتوا في شخصية فاطمة لانراوي، وكريس جرمان في شخصية بلال.
والفيلم هو من تأليف المفكر ياسر الحبيب الذي اعتاد اسمه وأعماله إثارة الكثير من الجدل خلال السنوات الأخيرة، حيث نشر العديد من المؤلفات التي تبحث في الموروث الإسلامي ومنها كتاب بعنوان “كيف زيّف الإسلام”، ونتيجة لكل ذلك تمّ إسقاط الجنسية الكويتية عنه.
وولد الحبيب في الكويت عام 1979، وتدرج في المدارس والمعاهد التعليمية النظامية، ثم عمل بعد تخرجه في الحقل الإعلامي والصحافي، بالإضافة إلى تلقيه العلوم الدينية في إيران.
واتهم ياسر الحبيب بمحاولته -من خلال الفيلم- مقارنة شخصيات إسلامية مرموقة بعناصر في تنظيم داعش الإرهابي والتسبب في انقسامات طائفية بين المسلمين.
أزمنة متغيرة وعقول متشابهة
في الماضي كان العرب والغرب على حد السواء يرفضون ويحرمون تجسيد مقدساتهم فنيا، لكن تغيّر الزمان وتطور الحضارات والتخلص من السلطة الدينية القديمة والرجعية على العقول حررت الفنون في الغرب، لكن وحدها العقول العربية لا تزال متشابهة، تتخذ ما وجدت عليه آباءها فلا تتفكر ولا تتدبر، ولا تحاول حتى انتقاد مضمون العمل الفني وإنما تنتفض بسرعة هائلة لمجرد ذكر أن أحد مقدساتها سيتم الحديث عنه في فيلم.
ويأمر الدين الإسلامي أتباعه بتقديس الله، وعبادته وحده لا شريك له، ولا يأمر بتنزيل أي طرف ثان منزلة الإله، حتى النبي نفسه، فهو الذي أوصاهم بعدم الغلو في الدين حتى لا تصدر عنهم أفعال شبيهة بأمم رسل سابقين له، فيقدسون بشرا من بعده. والآيات والأحاديث النبوية التي توضح كل ذلك كثيرة في القرآن والسنة ومنها قول النبي محمد “إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا الدماء واستحلوا المحارم”.
ورغم ذلك، يغلو المسلمون في دينهم، زمنا تلو الآخر، حتى صار كل مختلف عنهم أو محاولا تقديم طرح فني أو فكري لنظرته إلى التراث الديني، أي كل ما يخص الأحاديث والسير لصحابة النبي وتابعيه، يثير سخط المسلمين وغضبهم.
وليس رفض فيلم “سيدة الجنة” بجديد، فقد سبقته حوادث كثيرة منها رفض فيلم الرسالة لمصطفى العقاد الذي أنتج في العام 1977 أي منذ 45 عاما، والّذي تمّ عرضه في معظم الدول، لكن مصر كانت الدولة الوحيدة التي منعت عرضه، بسبب ظهور شخصية تجسد شخص عم النبي محمد وأخاه من الرضاعة حمزة بن عبدالمطلب. ثم عادت بعد ذلك بسنوات لتقوم بعرضه، ونحن نشاهده على القنوات الفضائية في كل المناسبات الدينية.
ورفضت الدول الإسلامية أيضا عرض فيلم “نوح” للنّجم راسل كرو رفضا شديدا، مؤكدة أنه لا يجوز تجسيد الأنبياء، فهو أمر محرّم شرعا، ويمثّل انتهاكا صريحا لمبادئ الشريعة الإسلامية وأنّ مثل هذه الأعمال الفنية تتنافَى مع مقامات الأنبياء والرسل، وتمس الجانب العقدي وثوابت الشريعة الإسلامية، وتستفز مشاعر المؤمنين.
المخرج اكتفى بإظهار جزء من أجساد الشخصيات المقدّسة، أما بالنسبة إلى الوجوه فأظهرها على شكل نور ساطع
في المقابل وفي تناقض صارخ، لم يتحرّك المسلمون ضدّ عرض مسلسل “يوسف الصديق” الذي يسرد قصة حياة النبي يوسف. لا بل فإن المسلسل الذي جسّد النبي على هيئة بشر ولعب دوره الممثل الإيراني مصطفى زماني يعدّ واحدا من أحب المسلسلات إلى العرب والمسلمين والتي يعاد بثها سنويا خلال شهر رمضان.
ورغم أنهم مأمورون بالإيمان بكافة الأنبياء والرسل وما لا يقبلونه على أحد منهم لا يقبل على الجميع، فهل أن تجسيد النبي يوسف لا يرتقي إلى منزلة تجسيد فاطمة الزهراء أو النبي نوح وغيرهما؟
وهناك فيلم آخر لم يتحرك ضده المسلمون، وهو فيلم “آلام المسيح” من بطولة ميل غيبسون عام 2004، والذي يتعرض للساعات الأخيرة من حياة النبي عيسى ووشاية اليهود به وصلبه.
ولم يرفض المسلمون أيضا عرض هذا الفيلم وكأن عيسى نبي يُقبل تجسيده لكن البقية مختلفون عنه.
وبردود الأفعال هذه يثبت “الثائرون” من المسلمين أنهم أمة تقودها العواطف، لا العقل، فحتى المساواة بين الأنبياء في التجسيد الفني غير قائمة لديهم، ولم يصلوا بعد إلى مرحلة تقييم الأعمال الفنية بعد مشاهدتها ولم لا الإجابة عليها بإنتاجات سينمائية تحكي الروايات الحقيقية أو على الأقل الروايات التي يؤمنون بها ويصدقونها عن شخصيات مقدسة في دينهم.