البحر الأحمر بين خطري المتطرفين وإيران
بقلم: وليد فارس
"وصلت هذه البقعة الآن إلى المرحلة القصوى في تاريخها، فإما أن تصل إلى السلام وإما إلى حقبة حروب تستمر لسنوات"
النشرة الدولية –
المياه الدولية للبحر الأحمر كانت ولا تزال من أكثر المساحات المائية أهميةً في العالم، منذ قرون. فهذا البحر المشرقي- الأفريقي كان صلةً بين قارتَي آسيا وأفريقيا منذ فجر تاريخ البشرية. وشكل جسره الشمالي في شبه جزيرة سيناء، ومضيق باب المندب في أقصى جنوبه، الطريق الديموغرافي الأعتق في تاريخ الإنسانية، إضافة إلى ممر بيرينغ بين آسيا والقارة الأميركية. هذا على الصعيد التاريخي البحت، ولكن فتح “قناة السويس” في عام 1876، أهدى العالم الحديث جسراً حيوياً للإمبراطوريات، للتجارة الدولية، وفي السبعين سنة الماضية، للبترول ومشتقاته. فالقناة في الشمال، فتحت الشريان الحيوي أمام القارة الثالثة أوروبا، و”باب المندب” ربط هذا الشريان بين المتوسط والمحيط الهندي، مغيراً تاريخ الاقتصاد العالمي إلى الأبد. مما صعد أطماع القوى الدولية والإقليمية المعنية بهذا الشريان.
حروب البحر الأحمر
مرت الحروب في منطقة البحر الأحمر خلال القرن العشرين واستمرت حتى عهدنا الحالي. فمن الاستعمار البريطاني الذى أرخى ظلاله على مصر والسودان، إلى حملة تحرير الحجاز والأردن من العثمانيين إلى الساحل العربي شرق البحر، إلى انسحاب البريطانيين من الساحل الغربي للبحر، إلى حروب إسرائيل ومصر حول سيناء، إلى إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي، إلى حرب توحيد اليمنَين في التسعينيات، وحرب الحوثيين، إلى معاهدات أبراهام الموسّعة. هذه البقعة وصلت الآن إلى المرحلة القصوى في تاريخها، وهي إما أن تصل إلى السلام، والاستقرار، والازدهار، وإما إلى حقبة حروب ومواجهات تستمر لسنوات. وهناك قوتان ستدفعان بمنطقة البحر الأحمر إلى واقع أو آخر.
التهديد “الإسلاموي”
إن التهديد الأول لأمن واستقرار منطقة البحر الأحمر استراتيجياً، منذ انتهاء الحرب الباردة، كان يتمثل بالقوى الإسلاموية المقاتلة المتحالفة مع المتطرفين، التي أرادت إقامة شبه خلافة على شطرَي البحر، عبر إسقاط الأنظمة في القاهرة، والرياض وصنعاء، والاستفادة من نظام البشير في الخرطوم لبناء قواعد إقليمية لهكذا مشروع. وكما هو معروف كانت النواة لهذا المشروع، المقاتلين العائدين من “جهاد أفغانستان” وهزيمة السوفيات في 1989. وقد حاولوا إقناع المملكة العربية السعودية بدعمهم لإنهاء ما أسموه “الأنظمة الكافرة” في المنطقة وتغطية إرهابهم بشرعية المملكة، الإسلامية. إلا أن الدولة السعودية رفضتهم وواجهتهم، فبدأوا حربهم عليها وعلى دول الاعتدال في المنطقة، فاجتمعوا تحت مظلة حسن الترابي في الخرطوم في عام 1992 وأطلقوا حملتهم لإسقاط الحكومات المعتدلة وضرب الولايات المتحدة. وكان هدفهم الاستراتيجي أساساً وأولاً إسقاط مصر، وعندما تسنح الظروف، السيطرة على السعودية، وإقامة “خلافة” عبر البحر الأحمر، تضم الجبارين العربيَين وبعدهما الأردن، ثم اليمن وصولاً إلى الصومال، والإمساك بمدخلَي البحر الأحمر.
وحاولت هذه القوى، انطلاقاً من سيطرة “الإخوان” على مصر بظل رئاسة محمد مرسي، جعل هذا البحر أكبر قاعدة لجيوش اعتقدوا أنهم بإمكانهم السيطرة عليها، إبّان ما عُرف بـ”الربيع العربي”. و لكن ثورة مصر الشعبية أسقطت الشروع المتطرف في أرض النيل في عام 2013. وأتت إصلاحات السعودية لتنهي هذا الخطر في تلك الدولة منذ عام 2014. وغيّرت ثورة السودان اتجاه الدولة في الخرطوم في عام 2019. فنجحت دول البحر الأحمر الكبرى، مصر والسعودية، والسودان، في إنهاء المشروع الإرهابي الذي كاد أن يسلم الساحلَين إلى التطرف والحروب الدائمة. ويبقى لدى “القاعدة” وبعض الميليشيات المتطرفة جيوباً في اليمن وبعض الخلايا النائمة في إريتريا ومنطقة القرن الأفريقي، لكن التهديد المتطرف الاستراتيجي تمت إزالة معظمه من “البحيرة الحمراء”. ويبقى الخطر الثاني.
الخطر الإيراني
إذا كانت موجة التطرف قد أُزيحت استراتيجياً عن منطقة البحر الأحمر حالياً، بفضل التحالف المصري-السعودي وشركائه، فإن التحدي الإيراني لمنطقة البحر الأحمر توسع وتعمق منذ عام 2009 تقريباً. إيران لها مطامع إقليمية عقائدية، غير خفية. فإضافة إلى تمددها في الهلال الخصيب من العراق إلى لبنان، لنظامها مطامع تاريخية في الجزيرة العربية، تتجسد في النهاية بالسيطرة على مناطق في شرق وجنوب السعودية، للوصول إلى أقدس مقدسات المسلمين، مكة والمدينة، أو وضعها تحت “التأثير الخميني”. لذلك فإن الوصول إلى البحر الأحمر يخدم هكذا استراتيجية لتطويق المملكة. ضف أن البحرية الإيرانية، التي تنظر إلى نفسها كأداة دولية للنظام، تحتاج للمرور الدائم عبر قناة السويس للوصول إلى الساحل السوري، وربما اللبناني، عبر المتوسط. من هذا المنطلق، دعم النظام الإيراني ميليشيات الحوثي منذ انطلاقتها العسكرية حوالى عام 2010 من صعدة، شمال اليمن. ودخلت طهران حرب اليمن بهدف إقامة “جمهورية خمينية” على حدود الحجاز وعلى مسافة جغرافية خطرة من مكة والمدينة، القلب الروحي للعالم الإسلامي. لكن البعد الجيوسياسي الأعمق لحرب إيران في اليمن كان ولا يزال السيطرة على مئات الكيلومترات من الساحل اليمني على البحر الأحمر، وصولاً إلى مضيق باب المندب. ما يبغيه مخططو الحرب الإيرانية في اليمن، هو السيطرة الاستراتيجية على جنوب البحر الأحمر، عبر مرافئ وقواعد حوثية على الساحل، ومحاولة احتلال جزر المضيق الجنوبي. وصولاً إلى الهدف العسكري الأكبر، وهو زرع منصات الصواريخ الباليستية الإيرانية، لتهديد الداخل السعودي وحتى استهداف الخليج “من الوراء” أي من اليمن. ومن بين الأهداف أيضاً، نصب بطاريات صواريخ بعيدة المدى، من صنع روسي وصيني، “لإقفال المجال الجوي” فوق البحر الأحمر وجزر باب المندب، ضد التدخلات الجوية الأميركية والأطلسية. ومن هنا يُفهم تعنت الحوثيين بالبقاء في مرفأ الحديدة.
هدف إيران في البحر الأحمر
إن خطة إيران الاستراتيجية حيال البحر الأحمر هي بالطبع إقامة نظام على شاكلة “حزب الله” يسيطر على الساحل اليمني، لكن الأهداف الاستراتيجية أبعد من ذلك. فطهران تبغي مد نفوذها باتجاه الجانب الأفريقي للبحر، عبر محاولات للتواجد الأمني والاستخباراتي في إريتريا، وجيبوتي، وأرض الصومال، لا سيما من خلال مشاريع تجارية يمولها الاتفاق النووي، إذا عادت أميركا إليه. وتتكل طهران أيضاً على حلفائها الروس الذين يحاولون الحصول على قاعدة على ساحل السودان، قد تستعملها إيران، وعلى تمويل صيني محتمَل. الخلاصة، إيران تريد منطقة نفوذ في البحر الأحمر الجنوبي للسيطرة على الملاحة عبر باب المندب، والمقايضة مع حرية ملاحتها عبر قناة السويس. ففي منطق القيادة الإيرانية، حرب اليمن هي جزء من حرب السيطرة على البحر الأحمر.
تحالف البحر الأحمر
بوجه الحملة الإيرانية في منطقة البحر الأحمر، تقود المملكة العربية السعودية جهود المواجهة بمساعدة شركائها الإقليميين. في اليمن، تعتمد الرياض على الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، وعلى القوات الميدانية للمجلس المركزي الجنوبي. وفي الجزيرة ككل، تدعم الإمارات والبحرين، التحرك السعودي المناهض لإيران. ويقف التحالف العربي إلى جانب الرياض، بما فيه الأردن، الذي له مرفأ العقبة على البحر الأحمر. كما تتضامن مصر، التي لها سواحل طويلة في سيناء وأفريقيا، مع التحالف. وصرحت القاهرة أكثر من مرة أنها تعترف بالحكومة الشرعية اليمنية، وأنها لن تقبل بتحويل هذا البحر والممرات المائية إلى بحيرة عسكرية للمحور. ويأتي التحرك الأخير، عندما نقلت مصر ملكية جزرها في تيران إلى المملكة، ووافقت إسرائيل على تعديل تمركز قواتها لصالح السعوديين، ليعزز الجدار الشمالي للبحر في وجه الإيرانيين. إذ إن القطع البحرية الإيرانية ستواجه تحالفاً للقوات البحرية السعودية، والمصرية والأردنية، ومن ناحية أخرى الوحدات البحرية الإسرائيلية، إذا غامرت شمالاً في البحر الاحمر، ولن تنجو في أي مواجهة. أما في جنوب هذا البحر، فقد تتواجه مع السعوديين والإسرائيليين، والسفن الإيرانية ستكون بعيدة عن قواعدها في الخليج. إلا أن السؤال الأكبر يبقى حول موقف الولايات المتحدة من المناورات الإيرانية في منطقة البحر الاحمر. إدارة جو بايدن لن تكون البادئة في مواجهة بحرية مع إيران في المياه الدولية، لكن القوات الأميركية تنسق مع القوات السعودية والمصرية والإسرائيلية، وتتبادل المعلومات معها. في حال حدوث مواجهة بين إيران والعرب أو إسرائيل في تلك المنطقة، سيدرس البيت الأبيض الوضع ويتخذ القرارات المناسبة. إذ إن الاتفاق النووي لا يزال هدفاً للإدارة حتى اليوم. فإما أن تزود واشنطن حلفاءها لوجستياً ومعلوماتياً، أو أنها تدعهم يردون على الإيرانيين في حال المواجهة. والاستثناء الوحيد هو في حال اعتداء إيران على قطع أو سفن أميركية، أو على الملاحة الدولية. و بالخلاصة لا يزال جنوب البحر الأحمر منطقة غير مستقرة ما دام الحوثيون يسيطرون على سواحل يمنية.