بلدي يا بلدي: كوريغرافيا تؤكد أن الفنّ حرّ أو لا يكون

النشرة الدولية –

العرب  – حنان مبروك –

دفعت الكثير من النساء ثمنا باهظا لتمسكهن بالحرية وحقهن في ممارسة الفن هواية ومهنة في مجتمعات محافظة، ثمنا جعلهن يعشن حالات متضاربة من الخوف والأمل، القوة والضعف، الربح والخسارة، ومنهن نساء خلدهن التاريخ فصرن اليوم محور أعمال فنية تتأمل مسيراتهن وتأخذ منها العبر.

يستطيع الباحث في تاريخ الدول الفنية أن يجد العشرات من القصص عن فنانين وفنانات تمردوا على الضوابط الاجتماعية أو عاشوا طوال حياتهم الفنية في صراع بين الأنا الجامحة نحو الإبداع والحرية المطلقة والآخر، بما يمثله من قيود واختلافات فكرية وعقائدية تخضع الفن لتقييمات ونواميس مشددة، ولا تزال تفعل ذلك إلى يومنا هذا.

في التاريخ التونسي، وتحديدا منذ مئة عام، وجدت الفنانة التونسية الراحلة حبيبة مسيكة بصوتها الشجي وبمقاومتها للمستعمر الفرنسي وللمجتمع التونسي المنغلق على ذاته، وتعتبر سيرتها مثالا على الجرأة والالتزام، في وقت لم تكن فيه المرأة قادرة على المشاركة في كل مظاهر الحياة العامة.

من قصة هذه الفنانة، وشبيهاتها من النساء القويات والمتمردات، أنجز الكوريغراف التونسي رضوان المؤدب والراقصة ملاك السبيعي، عرض “بلدي يا بلدي” الذي عرض مؤخرا في أيام قرطاج الكوريغرافية.

وحمل العرض عنوانا مختلفا باللغة الفرنسية معناه “سوف تحرقنا النار جميعا”، حيث تدور فكرته حول قصة حياة الفنانة حبيبة مسيكة (1903 – 1930)، وهي مغنية تونسية ذاع صيتها في عشرينات القرن الماضي، وتذكرها كتب التاريخ بصفتها فنانة تمردت على الأعراف الاجتماعية والأنماط الفنية السائدة آنذاك في تونس والعالم العربي، وكانت في جانبها الإنساني جريئة، تعبر بحرية عن حبها لتونس والتزامها بالدفاع عن بلدها ضد المستعمر الفرنسي، مما جعلها فنانة محبوبة لدى التونسيين، لكنها اغتيلت حرقا على يد عشيقها وهي في سن السابعة والعشرين.

ظلت حبيبة مسيكة أيقونة في الغناء التونسي، لكنها أيقونة لا يجرأ أحد على الاقتراب منها، فالدولة فرطت في ممتلكاتها ومقبرتها مهملة، وتاريخها الفني منسي، لا أحد يعيد إحياءه ولا حتى تبث أغانيها في وسائل الإعلام المحلية إلا في ما ندر. وكأن ليس الجسد وحده من أحرق، وإنما أحرق تاريخها وظل اسمها يتردد على الألسن كخير مثال على الفنانة التي كانت ضحية فنها.

اضطراب لا حدّ له

 

بعد مرور ما يناهز قرنا من الزمن على انتهاء قصة الفنانة، أحيتها الراقصة ملاك السبعي من جديد، فهي تعتبر أن حبيبة مسيكة قدوتها في الفن والحرية، وهي إن استعرضت بجسدها لحظات مجد وانكسار عاشتها الفنانة، إلا أنها أثارت في أذهان الحاضرين نقاط استفهام عديدة يمكن طرحها على الفن عموما، فماذا يعني أن يكون الإنسان فنانا في مجتمع محافظ؟ وكيف يحافظ على حريته باعتبارها ضرورة مطلقة للتعبير الحر وللإبداع دون قيود؟

وفي هذا العرض، التقى الكوريغراف رضوان المؤدب والراقصة ملاك السبعي والفنانة التشكيلية هالة عمار والموسيقي سليم عرجون من أجل تكريم المرأة التونسية. هذه المرأة التي طالما ناضلت من أجل افتكاك حقوقها والتمتع بحريتها في مواجهة التحديات والمصاعب.

وراوحت بطلة العرض الراقص ملاك السبعي في حركاتها الراقصة بين البطء والسرعة، بين التقوقع على جسدها، والانفتاح، لتعبر عن التضارب في مشاعر حبيبة مسيكة وكل فنان يعيش مصيرا مشابها، فمن ناحية هي تشعر بالجمود والانغلاق ولا تستطيع التحرر من السجن النفسي والاجتماعي، وفي المقابل تسعى نحو التمرّد والتحرر بشتى السبل.

وكانت حركات الراقصة صراعا لا ينتهي، بين الأنا والآخر، وهو صراع متكرر في كل العصور، كذلك هي حركات السبعي متكررة في كثير منها، للرفع من إيقاع العرض والتشديد على خطورة المسألة التي لم يستطع الفنانون وضع حد لها إلى الآن.

وترقص المرأة المتجسدة في هيئة ملاك السبعي، وكأنها شعلة من نار، تحاول السير قدما لمواجهة النظام القائم وتغيير العالم نحو الأفضل، متماهية مع نوتات البيانو التي تبدو مقطوعات مألوفة تحمل المتفرج تارة نحو الأمل وطورا نحو اليأس.

وظلّت الراقصة تعود في أدائها إلى وضعيّات تنكمش فيها على ذاتها، وكأنّ الانكماش هو المصير النهائي المحتم على النساء داخل مجتمعات ترفض تحررهن وترى في امتهانهن الفن، وخاصة الغناء والموسيقى، أمرا مرفوضا مهما تحررت المجتمعات.

ويوظف هذا العرض الكوريغرافي الراقص سينوغرافيا شديدة الدقة، فهو يعتمد مربعا من الضوء، لا تتمرد عليه خيوط النور ولو قليلا، وكأنه مساحة الحرية التي يمنحها المجتمع للنساء، وهي المساحة الخاصة للرقص فوق خشبة المسرح، فيما تتوزع الألوان بين الأسود والأحمر، الأسود باعتباره قيمة ضوئية ثابتة تبنى عليها الحركة والإضاءة في العرض، أما الأحمر الذي تشكله الفنانة التشكيلية هالة عمار فيشير إلى حمرة الدم وإحالاتها الواسعة التي من بينها حمرة دماء الفنانات اللواتي دفعن حياتهن ثمنا للحرية.

سيرة نساء

Thumbnail

في هذا العرض، ليست حبيبة مسيكة من بعثت وحدها لترقص، وإنما ترقص كل امرأة محبة للحياة وللحرية في حماس وعشق وولع وكأنها شعلة من نار، فهي مصدر الحياة والخلق، العاطفة والحب، التي تتسلح بنار الثورة والقوة والإرادة في مواجهة النظام القائم وفي محاولات التغيير والإصلاح، شعارها في ذلك أن الأوطان بحاجة إلى النساء حتى تكون جميلة وقوية.

وعلى خشبة المسرح، يستحضر الرقص سيرة وذاكرة كل نساء المقاومة والقيادة والريادة، فيهدي مقطع فيديو لأسماء نساء خلّدهن التاريخ، ويوضح للمتفرج أنه أمام عرض مسرح أدائي مبني على قصة واقعية تعكس صورة المرأة والفن معا في التوق إلى الحرّية المطلقة.

هذا العرض الذي يمتد طوال ساعة من الزمن، أكد أن “الرقص هو اللّسان الآخر للإنسان” فبه تحكى القصص الواقعية، ومن خلاله يقف أهل الحاضر على حكايات الأجداد إن صحّ التعبير.

وعندما يرقص الجسد فإنه ينتفض في وجه كل القيود ويتحرّر من كل “الأصفاد” في استمتاع بكل حركة وخطوة تترجم فكرة أو فلسفة ما، لذلك يوجد في الرقص رقصات، وكل أمة ترقص بطريقتها، وكل شعب يمارس الرقص بطقوس تميزه عن غيره.

يذكر أن أيام قرطاج الكوريغرافية بالرغم من حداثة تأسيسها فإنها استطاعت فرض حضورها عربيا وعالميا واستقطاب اهتمام أهم الكوريغرافيين في العالم، إذ تواصل الدورة الرابعة للمهرجان التعريف بفنّ الرقص بكل ما يحمله من تقنيات وجماليات وتجليات.

أما ملاك السبعي فهي أول راقصة تونسية تنضم إلى المعهد الوطني للموسيقى والرقص بباريس، خاضت مسيرة مهنيّة على المستوى الدولي في عدّة فرق مرموقة، قبل أن تعود إلى تونس لتقاسم الشعب شغفها وتناضل من أجل انضواء الرقص تحت العائلة الكبرى للفنون.

وهي كذلك كوريغرافية ومدرّسة وراقصة تبحث دائما عن التوازن بين النضال كمواطنة والإبداع الفني، فمع جمعية “حي الرقص”، وضعت عدة مشاريع عن التكوين في الرقص، وعندما كانت عضوا في الشبكة العربية الأوروبية للرقص المعاصر والأداء، شاركت في ولادة العائلة الكوريغرافية التونسية.

كما أنجزت عدة أعمال راقصة، من بينها أعمال تسائل الموروث التقليدي التونسي، أما كمدرسة فقد كرّست السبعي عملها في تعليم التقنية الكلاسيكية ووضعت مشروعا للتكوين مع معهد غوته بتونس وجامعة بالوكا للرقص. وفي العام 2017 عادت كمؤدية للرقص في عمل لرفيق دربها رضوان المؤدب الذي قدّمها في مهرجان أفنيون.

 

زر الذهاب إلى الأعلى