الرحلة الكونية للفنانة التشكيلية هدى بعلبكي تنطلق في فضاء لوحاتها
"رحلة مواطن كوني".. فرح أرضي لا يخلو من الحزن والأسى
النشرة الدولية –
العرب – ميوزا العراوي –
تراقب الفنانة التشكيلية اللبنانية هدى بعلبكي الأزمات المحلية والعالمية، لتدرك مكامن الحزن والمآسي وتعيد تشكيلها مشاهد فرح وأمل في غد أجمل ينعكس في شخوص لوحاتها المتمردة على اللامبالاة والاستسلام لمجريات الواقع.
تقدم صالة “أرت أون 56 ستريت” منذ الثالث عشر من يونيو معرضا فرديا للفنانة التشكيلية اللبنانية هدى بعلبكي تحت عنوان “رحلة مواطن كونيّ” ويستمر حتى التاسع من يوليو القادم. ويضم المعرض سيلا من اللوحات مختلفة الأحجام بداية بالأحجام الصغيرة جدا وصولا إلى ما يمكن اعتباره جداريات غنية بالأجواء اللونية.
كانت الفنانة التشكيلية اللبنانية هدى بعلبكي تحضّر لمعرض فني كبير قبل أن يجتاح العالم وباء كوفيد – 19، ومن ثم زادت الأزمات على الصعيد الداخلي في لبنان. وليس من الصعب أبدا تخيل أثر هذا التصعيد في وجدان أيّ فنان لاسيما إن كان شبيها بالفنانة هدى بعلبكي التي تمرست ريشتها على تحويل المآسي إلى فرح أرضي لم يخل من الحزن والأسى المُبطن بألوان مُشرقة. فتلك هي رسالة الفنانة منذ بداية مسيرتها الفنية.
وهي أثبتت بعد ثلاث سنوات من تذوق أنواع السأم والحزن والخيبة أنها فنانة الفرح الأرضي المُتجسد في المشاهد الطبيعة وفي وجوه شخوصها العابقة بعطور الأحراج المتوحشة.
هدى بعلبكي أثبتت أنها فنانة الفرح الأرضي المُتجسد في الطبيعة وفي وجوه شخوصها العابقة بعطور الأحراج
مشاهد من الطبيعة اللبنانية مُطعّمة بمنازل تقليدية مكسوة بالقرميد أو بالحجر الملوّح بأشعة الشمس، لاسيما شمس الظهر الحارة التي لا تريد من الظلال أن تتشكل إلا بألوان تحبس الأسود الكامل في قواريه السحرية وتتراوح ما بين البنفسجي الداكن والبني المُحمر والأزرق الداكن.
هذا هو عالم هدى بعلبكي الذي لم يتبدل إلا بالتطور التقني وأيضا بالقدرة الهائلة على الاختزال دونما الوقوع في التجريدية التي كانت في فترة سابقة من حياتها الفنية ظاهرة بشدة وإن لم تكن طاغية.
أما اليوم فتقدم الفنانة سيلا من اللوحات التي لم تحد عن خطها الفني وتشكلت بصمت مرسمها بداية بفترة ما قبل انتشار الوباء، فحلوله، والخروج منه إلى أزمات لبنانية جمة لم تتوقف عن التتالي حتى لحظة تعليقها للوحاتها في الصالة.
بعد هذا الانكفاء القصري ثم الخروج إلى العلن، من الطبيعي أن يحاول المُشاهد للوحاتها ولاسيما الذي يتابع تتطور أعمالها الفنية أن يعثر على اختلاف ما. وهو ما حدث فعلا.
إذا كانت اللوحات في معارضها السابقة تلك تجسد مشاهد طبيعية يغلب عليها الغموض، لاسيما تلك التي تميل إلى التجريدية وبشكل طفيف مع حضور واضح لفرح الألوان وانتشارها، فهي اليوم لوحات تفصح عن ذاتها ولا تتوخى الغموض. فكل عناصر اللوحة من أزهار وأغصان وتلال كساها العشب تتحاور فيما بينها على أنها عناصر منفصلة عن بعضها البعض وتملك كيانا خاصا بها.
تعيش عناصر لوحات الفنانة بعلبكي في حالة نود أن نسميها بحالة “قبول الآخر المختلف” وتقر بوجود بعضها البعض. وإن أردنا أن نفهم هذه الظاهرة علينا التوجه إلى لوحاتها الكبيرة جدا ليس فقط بنظراتنا، ولكن بأجسادنا التي تتقدم بخطوات بطيئة. سيشعر المارّ بها بأنه ينتقل من مشهد إلى مشهد في قلب اللوحة الواحدة كما يفعل حين يسير في حقل ما. هنا عطر ورد يلفح وهناك رائحة لأعشاب برية ولاحقا لفحة منعشة مُحملة بلا شيء سوى الفراغ.. فراغ يحضرك إلى استشعار آخر ليس بصريا فحسب ويرتبط بزهرة جديدة ورائحتها أو شجرة مختلفة في كنف ظلها أو “سخونة” مرج صيفيّ مكسوّ بحصى تحت أشعة الشمس.
كلنا نعرف أن هذا الحصى تحت أشعة الشمس يبث رائحة مميزة لا تقل روعة عن رائحة النباتات. هكذا تدعونا الفنانة إلى رحلة كونية في قلب لوحة واحدة. المرور أمام هذه اللوحات يشبه إلى حد بعيد رؤية فيلم بمشاهد عديدة ومتعاقبة.
وفي هذا السياق تماما تذكرنا لوحاتها، بل لنقل تذكرنا تجربة المرور أمام لوحاتها، بما برع المخرج انغمار برغمان في تحقيقه عبر عدسة كاميراته وهو دفع المُشاهد إلى التركيز على قسم من اللوحة وإهمال أخرى ومن ثم دفعنا إلى التركيز في ما أهملناه من خلال نظرنا في البداية.
كما يمكن القول إن السير إلى جانب بعض اللوحات يذكرنا بتجربة ركوبنا سيارة ونحن نحدق بالقمر الذي يبدو وكأنه غير ثابت، بل “يعبر” معنا المسافة التي نعبرها.
ثمة أمر آخر يمكن أن نعتبره جديدا في لوحاتها وهو ما نحب أن نسميه بالأزهار المُهجّنة. إنها أزهار طبيعية جدا، ولكن فيها شيء من الغرابة المقبولة. إنها أزهار تشكلت بعد أن راقبتها الفنانة طويلا وطعمّتها بإحساسها تجاهها.
نقلتنا هدى بعلبكي من الجنائن الطبيعية التي اعتدناها في لوحاتها السابقة إلى الجنائن المسحورة العابقة بألوان غرائبية بالقدر الكافي الذي لا يجعل منها أزهارا تنتمي إلى عالم الخيال. ويجب أن ننتبه إلى أن غياب الظلال في معظم لوحاتها الجديدة جعل من عناصر لوحاتها واضحة، أي أن الغرابة غير مُتأتية من كونها غامضة في بعض جوانبها. وعلى كل الأحوال، يحق لفنانة كهدى بعلبكي التي أغدقت طاقتها وموهبتها وخبرتها طويلا في رسم الأزهار أن تبتكر أزهارا تسمّيها “هدى”. إنها فعلا، أزهار هدى بعلبكي الخاصة بها وحدها وتقدمها للمُشاهد كي يشاركها متعة النظر إليها.
من ناحية أخرى يجب ذكر أهمية طريقة العرض والتنوع بالأحجام التي جعلت من المعرض تجربة حيّة بحد ذاتها. هناك لوحات تتقابل وتتشارك زاوية واحدة، وهناك لوحات صغيرة وضعتها الفنانة كأنها خلية نحل. غير أن النحل في تلك اللوحات ليس ذلك الذي نعرفه، ولكنه يمثل وجوها بشرية ذات ملامح سعيدة وحزينة في آن واحد. وجوه من عسل ملون سكبت فيها الفنانة بالغ إحساسها الذي لا ينفك يرى وجوه الناس جزأ لا يتجزآ من الطبيعة.
يُذكر أن الفنانة هدى بعلبكي ولدت في بيروت سنة 1968، تخصّصت في الرسم من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية. شاركت بمعارض عديدة ولها معارض فردية كثيرة داخل لبنان وخارجه ومنها معرض في الإمارات في العام 2008 وفي الصين في العام 2010.