بوتين و عقدة القطب الواحد
بقلم: مصطفى فحص
النشرة الدولية –
بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرض مكانة خاصة لبلاده في الخارطة الدولية من حيث انتهت الولايات المتحدة، فواشنطن المنتصرة في الحرب الباردة واجهت صعوبات في تطبيق استراتيجية هيمنتها العسكرية على العالم، ما أدى إلى فشلها تكتيكيا بشكل عام في يوغسلافيا وأفغانستان والعراق، وهذا ما يكرره فلاديمير بوتين في جورجيا وسوريا وأوكرانيا، لكن الفارق بين واشنطن وموسكو ان الأخيرة تنفذ استراتيجية الهيمنة العسكرية لفنض غبار الهزيمة عنها، ولكي تفرض نفسها قطبا عالميا من جديد في عالم يُصر بوتين على تسميته متعدد الأقطاب.
في كلمته أمام المشاركين في منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي العالمي في دورته 25 ذّكر الرئيس الروسي الحضور بما قاله قبل عام ونصف في مؤتمر دافوس الاقتصادي “أن العالم أحادي القطب قد انتهى، لكن هناك محاولات مضنية لمحاولة استعادته”، وبلغة أخرى فإن بوتين يروج لفكرة ان مفاعيل الانتصار في الحرب الباردة قد انتهت، واننا نمر بمرحلة تمرد دولي على الهيمنة الأميركية، وهذا ما قاله بوتين حرفيا في بطرسبورغ ان “العالم لم يعد كما كان من قبل”.
ما لم يلحظه بوتين ان تراجع انخراط واشنطن المباشر في الحروب نقلها من مرحلة الهيمنة على العالم إلى قيادة العالم، وأصبحت في العقد الأخير ضابط إيقاع بعدما تصور الجميع انها باتت الشرطي الوحيد في العالم، لكنه – أي بوتين- يرى ان أمريكا بعد أن أعلنت النصر في الحرب الباردة، أعلنت أن مصالحها مقدسة، والآن تسير اللعبة في اتجاه واحد، وفي ظل هذه الظروف يكون العالم غير مستقر”، إذ انه يحملها مسؤولية عدم الاستقرار العالمي، ومن وجهة نظره الاستقرار يحتاج إلى توازن قوى أو تعدد في القوى العالمية، وهي أشبه بدعوة إلى العودة إلى صراع المعسكرين، حيث يعبر بوتين عن رغبوية استراتيجية تربط بلاده مع الصين في مواجهة الغرب، خصوصا انه يدرك حدود القوة الروسية وتأثيرها على العالم، وغياب الإمكانيات التي تخولها تصدر المشهد الدولي بوجه الولايات المتحدة.
تُمثل مواقف فلاديمير بوتين في العقد الأخير ذروة الامتعاض من هيمنة الولايات المتحدة، ومحاولات الحشد الدولي من أجل معارضته وحتى مواجهته غير المباشرة عسكريا والمباشرة سياسيا واقتصاديا لكن دون طائل، ففي كتاب “الاختيار” يعالج مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيغنيو بريجنسكي أزمة الامتعاض من التفوق الأميركي ويقول ” راودت الصينيين والروس فكرة عقد استراتيجية، تعزيز التعددية القطبية، ومصطلح يمكن تفسيره بسهولة على انه مناهض للهيمنة، ولم يسفر ذلك عن الكثير بحكم ضعف روسيا النسبي إزاء الصين فضلا عن اعتراف الصين البراغماتي بحاجتها في الوقت الحالي وقبل كل شيء إلى الرساميل والتكنولوجيا الخارجية”.
لم تسعف العقائد الجيوسياسية التي طرحها المفكر الروسي الكسندر دوغن القيادة الروسية في تقديم نموذجا بديلا عما وصفه بـ الامبريالية الأميركية، ولم يفلح في اقناع حتى من تصفهم موسكو بجوارها التقليدي بأن ينضموا إلى إمبراطوريتها البرية بوجه الإمبراطورية البحرية الغربية، وبرغم حديث بوتين عن الأوهام الجيوسياسية التي عفا عنها الزمن وربطها انها قوضت الثقة في العملات العالمية، فإنه يعترف بطريقة غير مباشرة بأن الولايات المتحدة تجاوزت في تأثيرها الدولي شروط الجغرافيا سياسيا واقتصاديا وبأن أغلب دول العالم البعيدة عنها بآلاف الكيلومترات تتصرف مع المصالح الأميركية كأنها دول محاذية لأميركا.
قبل عقدين تقريبا وصف الراحل بريجنسكي معضلة روسيا والصين مع الهيمنة الأميركية، وبرغم مشهد الانكفاء الأميركي قبل الحرب الأوكرانية الذي قابله صعود روسي واضح على الساحة الدولية مدعوما من الصين نسبيا ومن بعض الدول التي تتهمها واشنطن بالمارقة، إلا ان أحدا من هذه الدول لم يكن قادرا على الاقتراب من منافسة واشنطن سياسيا أو اقتصاديا، والأخطر ان نهاية الحرب الأوكرانية قد تنتهي بما لا يشتهي بوتين، فمن يعتقد انها حليفته الصين تراقب الموقف الاوكراني وما بعده ولم يزل موقفها ملتبسا اما اوروبا التى ايقظها بوتين فانها عاودت الاصطفاف الكامل خلف واشنطن.