روسيا تعاقب أوروبا وتغازل أميركا
بقلم: طوني فرنسيس

في بطرسبورغ يرسم بوتين خريطته للعالم بينما يتمايز حليفه الصيني تحت راية الأمم المتحدة

النشرة الدولية –

بدا بوتين مطمئناً إلى أن روسيا ستخرج منتصرة من الصراع الدائر على مستوى العالم فالعقوبات لم تنجح في إسقاط الاقتصاد الروسي (أ ف ب)

العالم يمر بتغيرات جذرية. الاتحاد الأوروبي فقد سيادته بالكامل، والعمليات الديمقراطية فيه تشبه السيرك. العالم أحادي القطب انتهى. أميركا اعتبرت نفسها رسول الرب على الأرض، وأعلنت النصر في الحرب الباردة، ونحن شعب قوي وسنتعامل مع أي مشكلة، وهذا يتضح من تاريخ بلادنا الممتد على مدى ألف عام.

تلك كانت بعض العناوين العامة الأساسية التي طرحها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كلمته أمام منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي الخامس والعشرين، الجمعة الماضي. وهو إذ رفض المقولات المناهضة عن “تضخم بوتين” وثقته الزائدة بالنفس التي جعلته يشن حرب أوكرانيا، بدا مطمئناً إلى أن روسيا ستخرج منتصرة من الصراع الدائر على مستوى العالم، فالعقوبات لم تنجح في إسقاط الاقتصاد الروسي. “لقد اعتقدوا أن الدولار سيصبح 200 روبل… والتوقعات المتشائمة لم تتحقق”، وبالعكس “تجاوز التضخم في بعض بلدان اليورو 20 في المئة، وبلغت خسائر الاتحاد الأوروبي المباشرة من فرض العقوبات ضد روسيا 400 مليار دولار، وزاد المعروض النقدي في أميركا 38 في المئة، وفي أوروبا 20 في المئة، خلال عامين”.

وفي الخلاصة، “العقوبات كانت مصممة على أن الاقتصاد الروسي هش وتابع وغير مستقل، لكن التغيير الذي أحدثناه خلال السنوات الماضية، هو سبب القدرة على المواجهة. ولذلك فهذه العقوبات تفتح أمامنا فرصاً كبيرة للاستقلال التكنولوجي. وروسيا لن تنعزل عن العالم، وستتعامل مع من يريد التعامل معها من القادة القادرين على التمييز بين مصالح أوطانهم والإملاءات الخارجية”.

كيف سيترجم بوتين رؤيته وتقييماته هذه في الممارسة السياسية ضمن الواقع السياسي الدولي الراهن؟

من الواضح أن الرئيس الروسي لا يعتبر نفسه خاسراً في نتيجة حملة العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بل زادت ثقته بالقدرة على المواجهة والخروج منتصراً، أو، على الأقل، مثبتاً نظريته عن انتهاء سياسة القطب الواحد. بالنسبة لبوتين ليست أوروبا إلا لاعباً ثانوياً، “سيركاً” كما جاء في توصيفه لانتخاباتها الديمقراطية. وتابعاً لأميركا التي ألزمتها فرض عقوبات على السماد الزراعي، “ثم أدرك الأميركيون أن الحصار ضار فرفعوه، أما الأوروبيون فلم يرفعوه بعد بسبب البيروقراطية”!

يتوقع الرئيس الروسي تغييرات في أوروبا. فالوضع الراهن، برأيه، سيؤدي إلى تصاعد الراديكالية، وفي المستقبل إلى تغيير النخب الحاكمة. وبوضوح يقول بوتين ويأمل بتغير السلطة في أوروبا!

بدت ملاحظته عن استعداد الأميركيين لتغيير موقفهم (بشأن السماد) نوعاً من رسالة يميزهم فيها عن الأوروبيين “التابعين”. ففي حديثه عن غرب كان “سخياً دائماً في رفع درجة العداء ضد روسيا” لم يركز على أميركا. أوروبا هي ما يزعج زعيم الكرملين، وهي ما ستكون شغله وموضع متابعته خلال المرحلة المقبلة.

كان لافتاً في سياق التمييز هذا موقف نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف قبل أسابيع قليلة، عندما أعلن أن موسكو جاهزة لاستئناف الحوار مع واشنطن في شأن الاستقرار الاستراتيجي، لكن “حتى الآن لا توجد إشارات على رغبة الولايات المتحدة”. مع ذلك. يتابع المسؤول الروسي، “في أي وقت، بمجرد أن يصبحوا مستعدين، سنؤكد ذلك، ولكن لا توجد إشارات منهم. لقد وقعوا في الفخ الذي صنعوه لأنفسهم، في شكل بعض المحددات، هذا كله هراء”. ويضيف المسؤول الروسي، “يجب التوقف عن التمارين البلاغية، ويجب أن ندرك حدود مسؤوليتنا، أتوجه بهذا إلى زملائنا الأميركيين، وأحاول التركيز مرة أخرى على الموضوعات والمشكلات المهمة، مثل الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي وتعزيزه”.

لا تبدو مثل هذه الرسالة متلائمة مع رسالة بوتين إلى الأوروبيين، الذين “يستضعفهم” الرئيس الروسي ويحذرهم من الأسوأ، معتمداً تعزيز سياسة التقارب مع الصين وأسواق آسيا، مع التفاتة خاصة إلى العالم العربي، حيث كانت مصر ضيفة شرف المنتدى هذا العام، بعد أن كانت قطر ضيفته العام الماضي.

لكن الصين، التي بلغ حجم تبادلها التجاري مع روسيا 140 مليار دولار، لم تشارك بوتين نظرته إلى العالم.

لقد حرص الرئيس الصيني شي جينبينغ على تقديم رؤية هادئة أمام المنتدى الروسي، فبدا أقرب إلى أمين عام للأمم المتحدة منه إلى زعيم دولة حليفة لروسيا في مواجهة أميركا والغرب.

أشار بينغ إلى أنه “خلال قرن من الزمان، لم يواجه العالم مثل هذه التغيرات الكبيرة أو تلك الجائحة التي يواجهها الآن… وهناك تحديات غير مسبوقة أمام تنفيذ أجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030”.

طرح بينغ أربع نقاط “لبناء مستقبل مشترك يسوده السلام والازدهار”: أولاً، تعزيز بيئة مواتية للتنمية باحترام التعددية الحقيقية، واتباع جميع البلدان مسارات التنمية المناسبة لظروفها الوطنية. ثانياً، تعزيز التعاون بين الشمال والجنوب. ثالثا، دفع عجلة العولمة الاقتصادية بتعزيز “الارتباطية الناعمة” لسياسات التنمية والقواعد والمعايير الدولية، ورفض محاولات فك الارتباط الاقتصادي وتعطيل الإمدادات، والعقوبات الأحادية وممارسة الضغوط القصوى، والحفاظ على استقرار سلاسل التصنيع والإمداد العالمية. رابعاً، متابعة التنمية التي يقودها الابتكار، وكسر الحواجز التي تعوق تدفقه.

بدت كلمة الزعيم الصيني بـ”الفيديو” التي خلت من الإشارة إلى مركزية مشكلة أوكرانيا، بعيدة عن هموم الحليف الروسي، بل ومتناقضة معه في نهجها العام، ما يشير إلى عدم تطابق في الهموم والاهتمامات، ويبرز إلى حد كبير الاختلافات التي تسود العالم بين روسيا متصادمة مع أوروبا وتسعى لمحاورة أميركا الرافضة، وصين تقدم نفسها مسؤولة عن رخاء العالم وتقدمه بقيادة الأمم المتحدة وعملاً بنهجها وخططها.

 

روسيا الآن في قلب المعركة، هذا ما يعنيه خطاب رئيسها، وهي بصدد الإمساك أكثر بأوراقها القوية بما في ذلك في سوريا (وهذا موضوع يحتاج إلى متابعة مستقلة). أوروبا تبدو منزعجة ومربكة في سلوكها تجاه أوكرانيا وفي تبعات المقاطعة والعقوبات، وأميركا التي لحقتها آثار الأزمة العالمية، تبحث عن استعادة الثقة في علاقاتها التقليدية مع دول الخليج، والصين تراقب، ولا تنخرط، فمشروعها التاريخي “الحزام والطريق” يبقى مقياسها الأساس لعلاقاتها مع العالم.

 

زر الذهاب إلى الأعلى