الأغلبية وبيت نيسين
بقلم: أحمد الصراف
النشرة الدولية –
«عزيز نيسين» روائي تركي شهير، ولد عام 1915، واتخذ اسماً مستعاراً هرباً من الأمن السياسي، ودخل السجن مرات عديدة، وتوفي عام 1995.
لـ«نيسين» قصة قصيرة بدلالات عظيمة انطبقت في حينها على أوضاع تركيا، ولا تزال تنطبق عليها وعلى الكثير من الدول التي أغرقت اقتصادها بديون خارجية ضخمة ومكلفة.
تقول القصة إن عائلة كانت تعيش في بيت كبير، وفي يوم قررت تأجير إحدى غرف البيت الخالية لمستأجر. شجعها الدخل على تأجير غرفة ثانية، ثم ثالثة، فجرى المال بين أيدي أفرادها كالماء، وأصبحت تنفقه على غير الضروري من الأمور، متناسين الصرف على صيانة البيت، فضج المستأجرون بالشكوى من الانقطاع المتكرر للخدمات، نتيجة تبذير الأسرة لأموالها، ودفع غضبهم أصحاب البيت إلى الاقتراض منهم بضمان الإيجار لإصلاح أعطال الكهرباء، ثم اقترضوا منهم لإصلاح شبكة الصرف الصحي، وقرض ثالث لإصلاح الحديقة وخزان المياه، وفي مرحلة ما، أصبح إجمالي ديونها يزيد على قيمة ما تقوم بتحصيله من إيجارات، فتوقف الدفع من المستأجرين، وتراكمت الديون على أصحاب البيت، بعد توقف السكان عن دفع الإيجارات!
دفع هذا الوضع الأسرة إلى السماح لمزيد من المستأجرين بالسكن في البيت، وحولوا الحديقة لمخزن أخشاب، ثم تركت الأسرة المساحة التي تشغلها من البيت وانتقلت للسكن فوق السطح، وأخيراً دفعها الإفلاس إلى أن يعمل أفرادها في خدمة المستأجرين الغرباء، وأصبحوا خدماً لهم!
فاض الكيل بالابن الأكبر يوماً فبكى على الوضع السيئ الذي بلغوه، وان البيت لم يعد بيتهم وأنهم أصبحوا غرباء فيه. غضب الأب من كلام ابنه، وفتح الخزانة وأخرج صك ملكية البيت، وقال لابنه وهو يلوح به في وجهه: إنه بيتنا، الذي ورثه لي أبي عن جدي. رد الابن غاضباً، نعم نمتلك صك الملكية، ولكن البيت لم يعد بيتنا!
***
ينطبق هذا المثل على دول وشعوب عدة، كما يشبه وضعنا، إلى حد ما، وضع أهل البيت، ولكن ليس بسبب عجزنا المادي وتراكم الديون علينا، بل بسبب رجحان كفة المتشددين المختلفين الذين سمحنا لهم بغزونا ويخرجوننا من جلودنا، ويحطمون آمالنا، ويخربون أحلامنا، فحولوا مدينتنا الجميلة، برضانا، لسجن كبير ولعاصمة «الممنوع» في العالم.
فممنوع علينا تناول ما لا يريدوننا تناوله، من طعام وشراب. وممنوع علينا ارتداء ما نحب، وممنوع عزف البيانو في اللوبيهات، وممنوع إقامة الاحتفالات، وممنوع الانسجام مع النغمات، وممنوع عرض ما نشاء من اللوحات، وممنوع نشر الكتب والروايات وإصدار البيانات، وكتابة المقالات، وممنوع بيع مشغولات الذهب إن مثلت رموز بقية الديانات، وممنوع بناء دور العبادات، وحتى سكن الكويتي وزوجته في الفندق ممنوع بغير عقد زواج وبيانات، وممنوع عرض الملابس على المانيكانات!
جاؤوا لنا من بعيد وانتقدوا نغمات «الهولو» واستسخفوا لحظات مرحنا وطربنا ورقصنا، وكرهوا «الصفقات» في أغانينا، ومقتوا إطلاق الآهات وأخذوا من قاموسنا أهزوجة «يا قميرة الدودو» وشطبوا المسرح وطال «تشمخهم» سمعة فنانين وكتاب وصحافيين ومفكرين، فاختاروا الابتعاد عن الساحة والانزواء.
لقد فتحنا لهم الأبواب، وأسكناهم في بيوتنا، فأصبحوا مع الوقت هم الذين لهم اليد الطولى في تشريع قوانيننا، فتمادوا وفرضوا علينا آراءهم وأساليب عيشهم وتقاليدهم وأعرافهم، ونجحوا في ذلك، ولن يطول الوقت قبل أن يكتسحونا بظلام فكرهم وسوء نواياهم! فمتى نعي خطرهم وننتفض؟