حين كانت بيروت دار نشر العرب..الضرورة مقابل الحرية والرغيف مقابل الكتاب
النشرة الدولية –
مجلة اليمامة –
حديث الكتب – لبنان – ماجدة داغر –
اقترن اسم بيروت بالنهضة الثقافية والفنية في المنطقة العربية منذ ستينيات القرن الماضي، فكانت سبّاقة في الميادين الثقافية في جميع مجالاتها. وتميزت بالإشعاع الفكري الحضاري لاسيّما في مجال الطباعة والنشر، حتى أصبحت الوجهة الفكرية للأدباء والكتّاب والشعراء، وواحة الحرية التي يقصدها المبدعون العرب للقاءات في مقاهيها الثقافية، ولطباعة كتبهم ومؤلفاتهم نظرًا لوفرة مطابعها ودور النشر فيها. كما للترويج لمؤلفاتهم في صحفها ومجلاتها وصالوناتها الأدبية وشركات التوزيع التي كانت تصل إلى معظم الدول العربية والعالم. وكانت بيروت آنذاك ملهمة لأبرز الأسماء الشعرية، فيقصدونها لنشر دواوينهم وإطلاقها من منابرها. فكان الشعراء الكبار روّاد بيروت ومساهمين في حراكها الثقافي، يواكبون الحداثة الشعرية من بيروت ويحتفون بالقصيدة على صفحات ملاحقها الثقافية، كمحمود درويش ونزار قباني وغازي القصيبي وعبد الوهاب البياتي ومحمد الفيتوري وغادة السمّان ومحمد الماغوط ومظفر النواب والجواهري وغيرهم وكثر من نجوم الشعر والأدب.
أدّت بيروت دور المختبر الثقافي وكانت العاصمة الفكرية والإبداعية العربية على مدى عقود، وبقيت كذلك حتى في أصعب المحن التي مرّت بها العاصمة اللبنانية. ورغم الحرب التي عاشتها لأكثر من 15 عامًا، لم تتوقف يومًا عن العطاء الثقافي، ولو أن الحركة الثقافية خفت بريقها بسبب الحرب، لكنها سرعان ما استعادت عافيتها في سنوات السلم وفرضت إيقاعها الثقافي مجددًا عبر الأنشطة المتنوعة من مهرجانات ومؤتمرات وأمسيات شعرية وندوات ولقاءات فكرية كانت تجمع نخبة المثقفين العرب.
احتضنت بيروت أول معرض كتاب عربي، هو «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» أو «عميد المعارض العربية» كما يُطلق عليه، والذي ينظمه «النادي الثقافي العربي» العريق، فكان يستقطب سنويًا أهم دور النشر العربية التي تتقاطر لتشارك في هذه التظاهرة الثقافية، فضلًا عن الأنشطة المرافقة من ندوات وتكريمات وتواقيع كتب واحتفالات تقدمها الجهة المنظمة ودور النشر.
اليوم كيف هي أحوال النشر في لبنان «مطبعة الشرق» و»دار نشر العرب»؟ وهو الذي شهد وجود المطبعة الأولى في الشرق العربي التي تأسست في جبل لبنان، وامتدت الطباعة بعد ذلك الى سائر انحاء الشرق كسوريا ومصر وفلسطين والعراق وغيرها. فأقدم مطبعة برزت للوجود في الشرق هي «مطبعة دير قزحيا» في لبنان، وقد نشرت عام 1610 كتاب (المزامير) باللغة السريانية. وكذلك المطبعة الأولى للحرف العربي، كانت أيضًا في لبنان، وهي «مطبعة مار يوحنا» في «دير الخنشارة» شرقي بيروت، حيث طبع فيها أول كتاب باللغة العربية في العام 1734 بعنوان «ميزان الزمان» للأب يوحنا أوسابيوس اليسوعي.
أين أصبحت «مدينة الحرف» اليوم، بعد النكبات التي حلّت بها في الآونة الأخيرة، من ثالث أكبر انفجار في العالم بمرفأ بيروت الذي لم يتوقف عن العمل سوى بعيد الانفجار منذ أيام الفينيقيين، إلى أسوأ انهيار اقتصادي، وتدهور عملتها الوطنية وهجرة أهلها، وتدمير مؤسساتها، وارتفاع نسبة الفقر والبطالة إلى أعلى مستويات في تاريخها؟
في إحصائية بسيطة عن دور النشر في لبنان تتظهّر لنا الأهمية الكبرى التي يضطلع بها هذا البلد الصغير على مستوى النشر والطباعة والكتاب. يمتاز لبنان بوجود أكبر عدد من دور النشر مقارنة بحجمه. فيبلغ عدد دور النشر فيه حوالي ٦٥٠ دارًا مسجلة لدى النقابة. كما يُنتج وحده نحو 30% من مجموع العناوين الصادرة في الدول العربية كلها والبالغة نحو 8500 عنوان في السنة. أما العناوين التي تُطبع في لبنان سنويًا فتبلغ نحو 7500 عنوان. هذه الدراسة، بحسب اتحاد الناشرين اللبنانيين، هي إحصائية عن دور النشر قبل أن يدخل لبنان في أزماته الكبرى منذ ما يقارب السنتين. أما اليوم فيختلف الوضع بشكل جذري، إذ بدأ أصحاب دور النشر والمطابع، منذ مدة، البحث عن مصدر رزقهم خارج بلدهم بسبب تأثر هذا القطاع الحيوي كما غيره من القطاعات. وهناك من لا يزالون يؤمنون بدور لبنان ورسالته ويحملون من الأمل بالمستقبل ما يجعلهن يكافحون للاستمرار كما قال مدير «دار نيلسون» الناشر والكاتب والناقد الأستاذ سليمان بختي.
على رغم قساوة الوضع الراهن «لا نزال نؤمن بدور الكتاب ودور الثقافة، يقول بختي، ونحن نحرص على تراثنا وعلى الحفاظ على تراث الأسلاف الذين صنعوا دور بيروت التنويري كرسالة للأدب العربي واللغة العربية، ونحن أمناء على هذا التراث رغم كل الظروف المحيطة بنا».
وفي سبيل الاستمرار والبقاء على قيد الإبداع، يحاول عدد من الناشرين تخطي الأزمات بابتكار أساليب جديدة. يقول بختي: «نحن نخترع معادلات جديدة لنتخطى الصعوبات، وهذا ناتج عن إيماننا بأن الكتاب هو أهم من الناشر وأهم من الكاتب، هو من يبقى ونحن نرحل فيترك علامات مضيئة بعدنا».
ثلاث أزمات كبرى جعلت من لبنان في آخر قائمة الدول المنهارة اقتصاديًا ومؤسساتيًا واجتماعيًا: الأزمة الاقتصادية، وباء كورونا، وتفجير مرفأ بيروت، «ولكن الأزمة الأصعب كانت في غياب الثقة والأمل بالبلد، يضيف الناشر بختي، حتى أصبحت المعادلة اليوم الضرورة مقابل الحرية، والرغيف مقابل الكتاب، وبالطبع هذه خيارات قاتلة ثقافيًا. لأن الانهيار أصاب جميع القطاعات بما فيها الجامعية والتربوية والتعليمية، وبالتالي أثّر على المعايير العالية، وعلى جدوى إصدار الكتاب وعلى شغف الكاتب بالنشر. الأمل نستعيده بالعمل، ومن واجباتنا أن نجد مخرجًا من هذه المعضلة. رأسمال لبنان هو الثقافة والمعرفة والإبداع، يستطيعون سرقة كل شيء إلا المعرفة».
بمقارنة بسيطة بين الأمس الجميل واليوم زمن الانهيار، نجد أن النشر تراجع إلى حدّ كبير وهذا طبيعي أمام ما يعيشه اللبناني الذي باتت أولوياته محصورة بالأمور المعيشية البسيطة. ورغم ذلك، يحاول بعض الناشرين أن يجدوا حلولًا وإن كانت مؤقتة.
لم تتوقف «دار نيلسون» عن النشر، ولكن «نحاول أن نقدّم إضافةً نوعية، يتابع بختي، وذلك لكي يشعر القارئ بأهمية الكتاب، مبتعدين عن الهدف التجاري. فنحن نعمل بلا ضفة ثانية، أي من دون بيع وتصريف إنتاجنا، فقط للشغف بالكتاب وليس لحسابات تجارية، وهذا ما يجعلنا نشعر أننا ما زلنا أحياء. لذلك لن يبقى من الناشرين في لبنان سوى من لديهم شغف وأصالة ومحبة للكتاب. ولذلك نحن في صدد إصدار بعض الكتب الجديدة والمهمة منها: ديوان جديد للشاعر الكبير شوقي أبي شقرا، 3 كتب عن سيّد درويش بمناسبة مئويته تأليف فيكتور سحّاب، وأيضاً لدينا إصدار عن الفنان الكبير عاصي الرحباني بمناسبة مئوية ولادته تأليف عبيدو باشا. أما الكتاب الحدث فهو ديوان قصائد غير منشورة للشاعر اللبناني الكبير خليل حاوي، وذلك استكمالًا لتجربته الشعرية الغنية».
الأمل هو ما يتحلى به ليس فقط الناشر في لبنان، بل جميع اللبنانيين لكي يستعيدوا بلدهم الذي كان يومًا لؤلؤة المتوسط وسويسرا الشرق ومهد الحضارة والثقافة.