بشارة مرهج: لهذا تبنّيت حلّ “القوات”.. وكلّهم صفّقوا للتجنيس

النشرة الدولية –

نداء الوطن – نوال نصر –

بشاره مرهج. يتقدم، مع هذا الإسم، أمران في الذاكرة: ملف التجنيس وحلّ «حزب القوات اللبنانية». وحين يتحدث، كلمتان تتكرران: العروبة وفلسطين. وحين نغوص في الأسماء، إسمان يجعلان نبض الرجل الهادئ السمات يتسارع: الياس الهراوي وميشال المرّ. وحين يسرد الأحداث، إثنان يبدوان الأقرب إليه: معن بشور وعبد الحليم خدام. هو كرر مرات ومرات «يشهد الله» ومما قال أصبحنا شهوداً على حقيقتين: أن سمير جعجع لم يمشِ كما أرادوا فأصبح معتقلا سجيناً. وأن فلسطين والقومية العربية- الى كثيرين- قبل الخبز غالباً. أكثر من ساعتين بكثير سمعنا خلالهما مفاصل من فصول محيّرة في حياة بشاره مرهج:

كُتب عديدة على الطاولة. نظارة. وكثير من شجر الزيتون حول الفيلا. هنا ضهور الشوير. بين يديه اليوم كتابان: «أميركا» لربيع جابر و»دنيا» لعلويه صبح. ولد في بيروت (العام 1946) لكن هنا (في ضهور الشوير) الجذور. كانوا خمسة أولاد: عادل، هو (بشاره)، سعد، كمال ورلى. درس في الشوير الثانية، ثم في الإنترناشونال كولدج، ودخل لاحقاً الى الجامعة الأميركية في بيروت. درس الإقتصاد. ويقول «لم أشعر يوماً بغربة لا في بيروت ولا في ضهور الشوير. أتأقلم عادة بسهولة. أحب بناء صداقات وأرفض العزلة والإنعزال. فكري وحدوي».

لكن، تحصل العزلة – أو الإنعزال- أحيانا هرباً من الفوضى العامة ومحاولات قهر الآخر. ألا يوافق بشاره مرهج على ذلك؟ يجيب: «هذا صحيح، تكون أحياناً ردة فعل على تمدد وتوغل ومعاملة سيئة». لكن أنتم سميتم فئة لبنانية بالإنعزالية؟ يقول «أنا مع التفاعل مع البيئة كي تتفكك العقد الموجودة والإشكالات التي نمت عبر التاريخ ومن خلال التجارب السيئة. وحياة الشعوب كما تعلمين فيها تمرد وسكون واستعداء وتجارب».

قرأ مرهج الكثير عن الثورة الاميركية واثرت به شخصيات مثل جورج واشنطن وتوماس جيفرسون (كتب الدستور الأميركي وأعطاه نفحة حديثة) وماركيز دي لافاييت (دعم الثورة) وابراهام لينكولن (ضد العبودية). قراءاته العربية كانت أيضا كثيرة خصوصا كتب جرجي زيدان وجبران خليل جبران. والتهم الكتب الروسية أيضا وتولستوي من كتّابه المفضّلين. كان يعيش في جوٍ يساري وكانت صور أباطرة روسيا ولينين وستالين في صدر دار جده ويقول «قراءة الأدب الروسي متعة. كانت لدي نفحة شعرية لكني لم أحسن كتابة الشعر ورؤيتي كانت أن الشعر غير قادر على تغيير العالم. إنه جمال وتطلعات ومناجاة».

 

بينه وبين سوريا… ودّ (تصوير رمزي الحاج)

هل حملت كل تلك القراءات والأجواء وهرولت وراء القضية الفلسطينية؟ يجيب: «قضيتي كانت العروبة. كنتُ أستمع الى راديو الشام وراديو القاهرة وأتابع أخبار حرب السويس. كنت متحمساً لمصر. وهناك من تحمسوا ضدها. الرئيس كميل شمعون إنتهج سياسة مناهضة لسياسة جمال عبد الناصر ظناً منه أنه يريد ضمّ لبنان. والخطيئة الكبرى التي اقترفها شمعون وسواه أنهم تمنوا هزيمة مصر. أنا كنت متحمساً للثقافة العربية معززاً بقراءات الشعر العربي والمتنبي وأبو تمام والجاحظ. كنتُ أعتبر أنه طالما توحّد الإنكليز والفرنسيون في الحرب ضد مصر فماذا يمنع أن يتوحد العرب؟ كنت واثقاً أن لبنان، إذا ترك لوحده يصبح تابعاً لجهات خارجية، وبالتالي يجب ألّا يكون منعزلاً عن العرب لسبب إفتراضي- نشره البعض- وهو أن جمال عبد الناصر يريد ضم لبنان الى القاطرة العربية».

أنت ترى بعض الأمور، من منظارك، إفتراضية بينما غيرك لا وكنت حينها صغيراً ولد… (يقاطع): «لا، كنت قد بلغت سن السادسة عشرة واقرأ التلغراف ثم صحيفة النهار (منذ العام 1957) وأتابع التناقضات والتفاهمات والتهديدات وحرب الجزائر. عاطفتي كانت مع الجزائريين لا مع الفرنسيين».

استاذ بشاره، هل تدري أنني وأنا أسمعك – كما حين أسمع آخرين – أشعر بتعاطفكم مع الجميع من دون أن أرى لبنان أولاً… (يقاطع بالقول): «مهلك، الإنسان يأخذ بلده كمعطى وهو جزء منه، يتماهى معه، أما قضيته فتكون مرتبطة دائما بالمحيط. لبنان، بسبب جغرافيته، لا يمكنه أن يكون منفصلا عن البيئة التي تحوطه».

ساند القضية الفلسطينية (تصوير رمزي الحاج)

الإنعزال والعروبة

إندلعت الحرب ووجد بشاره مرهج نفسه في خضمها. ماذا عن التفاصيل؟ ماذا عن السلاح الذي حمله؟ ماذا عن التدريبات التي شارك فيها؟ هل كان متهوراً آنذاك؟ يجيب: «أتى قراري مبنياً على مراحل وليس معلقاً في الهواء. كبرت في بيئة عربية وانتميت الى تيار العروبة في مقابل تيار لبناني بحت. بصراحة، كنا نسميه بالتيار الإنعزالي لأنه لم يكن يتطلع إلا لمصلحة لبنان. النوايا ربما كانت طيبة لكن الأداء سيئ. أما نحن، فكنا نعتقد أن لا شيء في السياسة يثبت أن لبنان قائم بذاته وقادر على ترتيب أموره من دون تفاعل وتأثر بالخارج. في السياسة، الحكيم هو من ينظر الى المستقبل ويحاول إستباق الأمور ويترقبها يفهم الظروف ويعرف كيف يواجهها. هناك من قرروا أن يواجهوا الوجود الفلسطيني بقوة السلاح فوقعنا في مشكلة كبيرة وهناك من حاولوا دعم الفلسطينيين وأنا منهم. حاولنا دعمهم ترجمة لحق العودة».

مع أهله وإخوته

نراك تستنكر موقف من واجهوا الفلسطيني، ماذا كنت تريد ان يقولوا له: أمرك سيدنا بلادنا لك وبتصرفك؟ يجيب: «لا، كانت هناك إفتراضات كثيرة غير صحيحة في ما يتعلق بالملف الفلسطيني. يمكن أن يكون بعض الفلسطينيين تصرفوا بشكل سلبي لكن القضية الفلسطينية أكبر وهي التي تملك قلوب الفلسطينيين، لكن الدعاية الصهيونية والأجنبية كانت تتحدث عن الدويلة الفلسطينية مثلما تتحدث الآن عن دويلة حزب الله. هناك تركيز دائم في الذهن اللبناني أننا معرضون للغزو».

في الأردن، في العام 1970، ثار بشارة مرهج عملياً: «يومها تعرضت القضية الفلسطينية الى مقتلة. وشعرنا، نحن الشباب، أنه إذا تُركت المقاومة بلا مساعدة سيكون عاراً على الشعب العربي» ويستطرد: «أحببتُ جمال عبد الناصر. هو رمز النضال ومقاومة الإستعمار. كنت أسمع خطاباته وأنا ولد. قرأت كتاب «الثورة» وميثاق العمل القومي. كنت ألمس توجهه الوحدوي. صحيح أنه أخفق حينا وأصيب بهزيمة كبرى في العام 1967 لكننا تابعنا نهجه. ويوم ذهبت الى الأردن، كنت مشبعاً بهذا النهج. أردت، أنا ورفاقي، إشعار الفلسطينيين أننا الى جانبهم».

هل تتذكر أول طلقة رصاص وجهتها؟ في صدر من؟ يسكت. يفكر. ويقول: «نادراً ما أطلقت الرصاص. لا أتذكر». لكن، ألم تشارك عسكرياً في الأردن؟ يجيب: «في معارك ضارية لا». في معارك عادية غير ضارية؟ «نعم، لكن لا أتذكر أنني أطلقت رصاصة على إنسان». هل خضع مرهج الى دورات عسكرية؟ يجيب: «نعم، في المتين. أنا تدربتُ أيضا مع الجيش اللبناني». كيف؟ متى؟ «أيام المدرسة».

هو لم يرد أن يغوص في هذه المرحلة. إحترمنا ما شعرنا أنه يريده وتابعنا.

بعث مع وقف التنفيذ

البعثي المفصول

إنتسب بشاره مرهج الى حزب البعث في العام 1962 فماذا بقي من البعث فيه اليوم؟ يجيب «بقيت الفكرة. إختلفت مع إخواننا في البعث في العراق بسبب إستقلاليتنا وتمسكنا بحريتنا في العمل داخل لبنان. وهذا ما أدى الى حساسية بيننا وفصلونا من الحزب. وعادوا وأبدوا ندمهم على ذلك» ويستطرد عند سؤاله عن عاصم قانصو بالقول: «كنا معاً بين عامي 1962 و1966 ثم التحق هو مع الفريق الذي حكم في سوريا أما نحن فاعتبرنا أن حركة 23 شباط العسكرية في سوريا ضد الحزب. رفضناها لكننا بقينا على صداقة. أساسا، ضمن منهجنا البعثي لا يجوز أن يتحول الخلاف السياسي الى عداوة».

هو ليس مع البعث القديم ولا مع البعث الجديد ويقول «نحن خارج التنظيم. رفضنا إنشاء حزب آخر لأننا اعتبرنا أن لا مبرر لذلك فشكلنا تجمع اللجان والروابط الشعبية عام 1975. وفي العام 1976 إختلفنا مع إخواننا السوريين».

في العام 1992 دخل مرهج الندوة البرلمانية ثم أُسندت إليه في حكومة رفيق الحريري الأولى (1992) حقيبة ممتازة: وزارة الداخلية… فكيف حصل ذلك؟ يجيب: «إنتُخبت نائباً عن بيروت ثلاث مرات. الناس انتخبوني. هم من أوصلوني و…». نقاطعه: لكن، كثير من المسيحيين يومها قاطعوا الإنتخابات وهناك أشخاص نجحوا بأربعين صوتاً؟ يجيب: والبارحة، هناك من نجح بأصوات لا تتعدى 77 و120. أنا نلت 10,450 صوتاً ثلثهم من المسيحيين».

كيف دخل بشاره مرهج حقاً السياسة اللبنانية من بابها العريض؟ يعود ليكرر: «أنا كنتُ في قلب السياسة من خلال تواصلي مع الناس». لكن، بعد الطائف أصبحت «اللعبة السياسية» في يد السوريين، فكم كان هناك رضى عنه؟ يجيب: «كنت مفترقاً عن السوريين من دون أن يعني ذلك فقدان الودّ بيننا. كانوا يشعرون أننا بعثيون لكننا لسنا في التنظيم. ونحن نعتبر أننا في الحزب لكن خارج التنظيم. إنها معادلة صعبة (يضحك)».

مسائل كثيرة يصعب أن نفهمها في شؤون وشجون السياسة والسياسيين. نتجاوزها ونسأل: هل كنت تزور سوريا كثيراً؟ يجيب: «كنت أذهب من وقت الى آخر. ويوم دخلت قوات الردع الى بيروت إشتكى أحد الأشخاص عليّ مدعياً أنني مسؤول في قوى الرفض في بيروت. إعتقلني عناصر من قوات الردع فقلت لهم: أنتم ترتكبون خطأ كبيراً. راجع كثيرون باسمي. أخذوني الى الشام وبدل أن يضعوني في المزة أخذوني الى وزارة الخارجية السورية حيث التقيت هناك عبد الحليم خدام. كنت قد التقيته مرتين في السابق، واشتبكت معه كلامياً في المرتين في العامين 1975 و1976. كنت أتكلم معه بصراحة في اللقاءات التي جمعتنا بحضور جورج حاوي وعاصم قانصو ومحسن إبراهيم وأحيانا أبو عمار».

دخل عالم السياسة. ويقول: كنت على علاقة ودية مع سليم الحص ورشيد الصلح. وكان الحص يريدني أن اكون على لائحته في انتخابات 1992 النيابية. وكان مدير حملته – إنتبهي مدير حملة الحص – فؤاد السنيورة».

كان السنيورة صديق الحريري ومدير حملة الحص في تلك الإنتخابات؟ لا، فؤاد السنيورة موظف لدى الحريري وليس صديقه. صديق الحريري كان روبير دباس، الذي حلّ ترشيحه مكاني على لائحة الحص. هكذا أراد رفيق الحريري. كان يريد نواباً على ودٍّ معهم. وأنا لم أكن أعرفه من قبل. أصبحت حينها في وضع حرج وكنت على علاقة طيبة مع رشيد الصلح – رئيس وزارة الإنتخابات آنذاك – فأخذني على لائحته. نجحت أنا عن المقعد الأرثوذكسي في بيروت وخسر روبير دباس».

نقول له مبروك. لكن، إذا كانت «أعماله» أدت الى نجاحه وكسر كلمة الكبار آنذاك، فكيف جلس على مقعد وزارة الداخلية؟ يجيب: «التقليد كان أن يكون الأرثوذكسي في بيروت وزيراً في الحكومة؟ هذا ما حدث أيام نسيم مجدلاني وحبيب أبو شهلا. ويومها لم يمانع رفيق الحريري وإخواننا السوريون أيدوا. ويستطرد: الحريري كان يميل الى أن يكون ميشال المرّ وزيراً للداخلية. والياس الهراوي كان يريده وبقوة بحكم الصداقة بينهما. لكن، يوم صدر المرسوم أعلن إسمي وزيراً للداخلية. الجميع تفاجأ حتى أنا. وأتذكر أنني إلتقيت قبل ساعات من ذلك الياس الهراوي في غداء في البلمند. إقتربت منه وألقيت عليه التحية فأجابني غاضبا – يعبّر مرهج عن شكل الإجابة بزمجرة. ضحكت وقلت في نفسي: معليش إنه رجل كبير. أما الست منى (الهراوي) فقالت لي: مبروك بشاره. لم أعرف حينها ماذا تقصد».

نتابع كلام بشاره مرهج مع كثير من علامات الإستغراب. فكل ما حدث معه أتت به الصدفة لا التدخلات السياسية التي كانت حينها في أوجها. نكرر على مسامعه كلمة: غريب. ونتابع بسؤال عن الصدف الكثيرة في حياته التي جعلته الرقم الصعب في حينها؟ ونتبعه بسؤال: هل نضاله في تجمع اللجان والروابط كان كافياً ليرفعه على الراحات نيابياً ووزارياً؟ يجيب: «الناس أرادوني. والسوريون لم يبدوا عدم رضى عني». لكن، قيل كثيراً حينها أن بشارة مرهج وديعة سورية؟ يجيب: «قالوا ذلك حين أصبح الهراوي مستعجلاً لاستبدالي بصديقه ميشال المرّ».

ألم تكن وديعة سورية؟ أعدنا سؤاله فأجاب: «لا، لا، إختلفنا في أمور كثيرة». نسأله: إختلفتم في أمور والتقيتم في كثير من الأمور؟ يجيب: «طبعاً، وهناك أمور لو لم يساعدني بها الرئيس حافظ الأسد لما نجحت بها». كنت تلتقي به كثيرا؟ «مرات، لكنه كان يعرفني». ويتذكر: «ذات مرة قال لي الرئيس الأسد أمام الأخ معن بشور والعماد حكمت الشهابي وشخصيات سورية: أنت قريب منا ولست في حزب البعث. أجبته: نحن في الحزب ولسنا في التنظيم. ونطمح أن تكون العلاقة ودية وتفاعلية بيننا. أجابني: أبو جمال سيتولى الموضوع ويضعني في الصورة. وهذا ما حصل».

كان حافظ الأسد ملماً بالفيلم اللبناني الطويل بكل صوره. لا شكّ لدى أحد بذلك. نتابع. يقول بشارة مرهج: «يوم اختاروني وزيراً للداخلية كنت أعرف الوزارة «أوضة أوضة». نستغرب فيقول: «قصدي كنت أذهب مع الناس كوني شخصية سياسية. كنت أعرف المحافظ والمدير العام والتركيبة كلها. لم آت غريباً من الشاطئ الى السراي».

كانت العلاقة بين وزير الداخلية ورئيس الحكومة «رسمية. أحيانا نتفق وأحيانا نختلف. إختلفنا حول مدينة كميل شمعون الرياضية. أراد تغيير الإسم. وأراد ضم نادي النهضة الى قصر المؤتمرات. وكانت ذروة الخلاف العام 1993 حين كان مطلوباً إزاحة المقاومة، حزب الله، نهائياً عن الخارطة. رفضت ذلك. إميل لحود أيضا رفض».

صاحب قرار التجنيس (تصوير رمزي الحاج)

سيدة النجاة وشك الوزير

معالي وزير الداخلية السابق رفضت إزاحة المقاومة الإسلامية وعملت على حل المقاومة المسيحية؟ نريد أن نعرف كيف صُنع هذا القرار؟ يجيب: «كنت جالسا في مجلس الوزراء فأتى الرئيسان رفيق الحريري والياس الهراوي وطلبا مني أن أصدر قراراً بحلّ حزب القوات اللبنانية لأن المصلحة تقتضي ذلك. قالا لي: يفترض أن يصدر القرار من قبلي. قرأته وقلت لهم: سأتبناه».

مهلاً، رفضت إزاحة المقاومة الإسلامية وتبنيت حل حزب القوات اللبنانية! علام استندت؟ «لأنني ببساطة كنت قد لاحقت التحقيقات في إنفجار سيدة النجاة. كنت أول واحد وصل الى هناك بعد ست دقائق من الإنفجار».

كنت هناك جنب الكنيسة؟ يجيب «كنت متجها الى طرابلس. وصلتني برقية عن حدوث الإنفجار. إتجهت بسرعة مع سائقي من دون مرافقة. وصلت فوجدت جمهرة وبينهم الأباتي بولس نعمان. ألقيت التحية عليه وعلى مجموعة من العسكريين كانوا قد بدأوا في التحقيق. وبدأت في جمع المعلومات من مسؤول عسكري كبير كان في داخل الكنيسة». ماذا أخبرك؟ قال لي: الإنفجار الذي حصل جزئي. سألته عن معنى ذلك فأجابني: معناه أن متفجرات ضخمة لا تزال موجودة تحت المذبح. جننت قلت له: هل يعقل أن تدخل كل هذه الكميات الى الكنيسة من مجهولين؟ لم يستطع إجابتي. فكرت في تلك اللحظة أن من أتى بالمتفجرات كان يدخل بحرية. هذا أول شك تولد لدي. الشك الآخر، تولد لديّ من تصريح الدكتور جعجع حين قال: لا تفعلوا مثل كل مرة وتتهموا إسرائيل. قلت لنفسي: لماذا يستبق الأمور. كلامه أدخل الشك في نفسي».

نصغي الى بشاره مرهج. نضع كفنا على خدنا. نحاول أن نستوعب ما يقول. نحاول أن نفهم طبيعة الشكوك التي تولدت لديه. عبثاً. فهل جملة من كلمة طويلة تكفي لتوليد الشك؟ سمير جعجع قصد على الأرجج أن لا تتسرعوا – كما إعتدتم – على رمي التهم وإلصاقها بطرف. حققوا ثم اتهموا. هذا بالنسبة الى الشك الثاني. أما الشك الأول، فالكنيسة مفتوحة ومطلق إنسان – مجرم- قادر على دخولها. يقاطع مرهج بالقول: «هذا غير ممكن، كما أنه إذا صحّ ذلك فلماذا إستبعاد إسرائيل؟».

الكلام لا يشفي غليل من يريد أن يفهم؟ الإتهام غير مبرر. نتابع الإصغاء الى وزير الداخلية الذي أصدر قرار حل الحزب: «وأنا في الكنيسة، وجدت التجمع أمامها يكبر. وكانت لدينا معلومات عن جهات تريد القيام باضطرابات في البلد. خفت أن يغلقوا نفق نهر الكلب ويعلنوا الأمن الذاتي. قلت للدورية التي لحقتني، ومشكلة من ستة دركيين: قفوا عند النفق. واتصلت بمخفر جونيه وبقائد سرية جونيه… كان الجميع ما زالوا في بيوتهم. وقلت لهم: ممنوع إقفال أي طريق».

بشاره مرهج، هل أنت قادر على الإقتناع بأن سمير جعجع والقوات اللبنانية قادران على تفجير كنيسة؟ يجيب: «أنا لم أقل أنها هي من فعل ذلك بل شككت بأن هناك قوى تريد ألّا تنجح الصيغة العربية. وتبين لاحقاً في التحقيق أن من قامت بذلك إمرأة يهودية من أجل توريط القوات!!». هل تعترف اليوم بأن شكوكك ظلمت القوات؟ «أعتقد أن هناك من كان يعرف». من تقصد؟ «القضاء جرّم سمير جعجع في قضية شمعون». نحن نتحدث عن الكنيسة التي وافقت على أساسها بحل القوات؟ (يفكر): «كانت هناك محاكمات». لم تكن المحاكمات قد بدأت؟ «أقصد تحقيقات. ولم يكن جعجع راغباً بالطائف. وكانت هناك أسلحة وصلته من العراق. كان صديقاً لصدام وباعها لاحقاً الى يوغوسلافيا». لكن، ألم يكن يصل الى جميع الأطراف في الحرب أسلحة؟

لا ننتظر طبعاً جواباً عن آخر سؤال، بل نتبعه بأسئلة: محسن دلول قال: إن سمير جعجع ظلم؟ يجيب مرهج: «لست متأكداً في موضوع الكنيسة لكني أعتقد أنه كان عليه أن يمتلك معلومات». لكن، أنت كوزير داخلية ألم تقصّر في مرحلة كان يعيش فيها المسيحيون قلقا كبيراً؟ ألم يكن من واجبكم الإنتباه الى أن شيئاً ما يُحاك؟ يجيب: «بصراحة، كنت أسهر كل ليلة في الشارع وأحضر القداديس الليلية لأتأكد من السلامة العامة».

بشاره مرهج، المسيحيون شعروا آنذاك بكثير من الظلم والغبن بنفي زعيم وسجن زعيم… يقاطعنا: «حسين الحسيني وكأنه نفي أيضا في قلب لبنان. ميشال عون كان في أحسن حالاته واستفاد شعبياً. سمير جعجع أيضا زادت شعبيته». هل كان عليه أن يدفع من حريته أحد عشر عاماً ليستفيد شعبيا؟ يجيب مرهج: «سمير كان يملك ورقة المحافظة على حريته وعمله السياسي لكن خياراته كانت كبيرة. كان عليه الإندماج في الطائف. قلت له يوم التقيته عام 1993: الطائف صيغة محلية وعربية وأممية ودولية. علينا الإلتزام بها. هو الآن يفكر بعقلية الدولة وليته فعل ذلك زمان. سمير جعجع كانت لديه الفرصة».

خلاصة تجربة (تصوير رمزي الحاج)

كلام نستدلّ منه الكثير

نتابع في ملف التجنيس. بشاره مرهج بعد مضي ثلاثين عاماً ما زلت متهماً؟ يجيب: «أتذكر أنني حين كنت صغيراً رأيت شعاراً مرفوعا فيه: موارنة قبرص لبنانيون وعرب وادي خالد غرباء. ولاحقاً، تأكدت أن إنصاف من هم بلا جنسية ضرورة. موضوع التجنيس طرح في الطائف. أتذكر أن الحكومة بالإجماع قالت إنها مع إيجاد حلّ. أعددت خطة مع مدير الأمن العام ريمون روفايل ومدير الأحوال الشخصية غسان شحاده. أنشأنا لجاناً ووضعنا شروطاً…». يستطرد مرهج في حيثيات هذا الملف ومساعيه ويقول: «صفّق النواب وقوفاً لصدور المرسوم ومجلس الوزراء هلل. ولاحقا تحدثوا عن خلل في العددية وارتفاع عدد المسلمين. قلت لهم بسيطة كميل شمعون وبشاره الخوري فتشا عن المسيحي الموجود في روما لإعطائه الجنسية. لاحقت مختارَين في بيروت إرتكبا تجاوزات. وأتذكر أن نعمة الله أبي نصر- يشهد الله على كلامي- كان في مقدمة من عملوا لتسهيل تقديم طلبات التجنيس. فتح مكتبه ليعلم الناس كيف يعبئونها و…».

طالما ضمير بشاره مرهج مرتاح فلماذا سمعنا عن تقاذف تهمة مرسوم التجنيس بينه وبين ميشال المرّ؟ يجيب: «أنا اعددت المرسوم والمرّ نفذه. أنا خرجت من الوزارة جراء مرسوم آخر الليل الذي أصدره الياس الهراوي وهو راجع من سوريا وعدل بموجبه الحقائب. أخذ مني الداخلية وأعطاني حقيبة وزير دولة إستقلت منها».

لكن المسؤولية الأولى تقع على من أقرّ المرسوم. أليس كذلك؟ يجيب: «لا، كان بإمكان ميشال المر أن يضع المرسوم في الدرج. أنا ضميري مرتاح. والياس الهراوي يا لطيف كم كان متحمساً للمرسوم؟ يشهد الله أنه هو من حمّس المترددين في مجلس الوزراء على توقيعه».

هل أخطأ ميشال المرّ؟ يجيب: «لا أتهمه. أنا أعددته وهو نفذه». لكن، هذا المرسوم حمل اسمك. أنت من يلام عليه ولا تعرف من أخطأ ومن أصاب به؟ «أنا، على أيامي، لم أسمع إلا التصفيق».

بعيدا عن التجنيس، أين أخطأ بشاره مرهج؟ «أخطأت حين ترشحت العام 2009. والخطأ الآخر أنني لم أراجع من اجل الإفراج عن قانون الدفاع المدني الذي أعددته بنفسي وأقر في مجلس الوزراء ووضعه الياس الهراوي في درجه لأنه كان يريد أن يقول أن ميشال المر هو من صنعه».

يا لها من علاقة كانت بين مرهج والهراوي. لكن، كيف نصدق أنه لا يحبه فقط لأنه يحب المرّ وفي النهاية إنتصر عليه الرئيس وزاحه من الدرب؟ يجيب: «ثلاث مرات صعد الهراوي في صيف واحد الى سوريا طالباً من الرئيس الأسد أن يخلصه مني. كنت أعرف. عرفت أنه كان في اجتماع مع نبيه بري ورفيق الحريري وحافظ الأسد وحين انتهى اللقاء طلب أن يتكلم مع الأسد. قال له: أريد بيتاً في الشام. أجابه: خير؟ رد: لم أعد أطيق النزول الى بيروت طالما بشاره موجود». ويستطرد بشاره: «هذا هزال سياسي».

نصغي الى الهزال السياسي ونكاد نذرف الدمع، متأكدين أن ما بلغناه في لبنان قليل على ما اقترفه «الكبار».

لاحقا، تم تعيين مرهج مجدداً وزير تنمية إدارية أيام الياس الهراوي وعين ثالثةً وزير دولة. ويقول: «في آخر لقاء جمعني مع الياس الهراوي قبيل وفاته إنتقد ميشال المر أمامي فقلت له: أنا جئت للإطمئنان عليك».

في السياسة كذب؟ سألناه فأجاب: كثيراً. هو اليوم يقرأ ويسمع الأغنيات الكلاسيكية. ويعيش مع زوجته الألمانية فالي. ولديه إبنتان لينا موجودة في مرسيليا ومنى في أبو ظبي. ولديه ثلاثة أحفاد: كلوي ولورا ورشيد. ويقول: أشكر الله عليهم. أصدقاؤه كثر. يعددهم. يصر على أن يذكرهم واحداً واحداً وحين يبدأ لا يعود ينتهي. لهم منه تحية. وفي رصيده سبعة كتب آخرها: «كهوف السلطة». قال فيه شيئاً ولم يقل أشياء. فالمجالس بالأمانات.

هو شكر ربه مراراً. ولكم الحكم الأخير على تجربته.

مع زوجته وابنتيه وحفيدته

 

زر الذهاب إلى الأعلى