محبس لندن 1996 ومازن مصطفى

محبس لندن 1996 ومازن مصطفى

أحمد سلامة

النشرة الدولية –

وافيتها في الثالث والعشرين من آب 1996 في زيارة إقامة طويلة هذه المرة، وعلى الرغم من أن لندن كانت إحدى المدن الثلاث التي دأبت أن أفيء إليها مرات عديدة بالإضافة إلى القاهرة واسطنبول، إلا أن هذه الزيارة كانت بالنسبة لي بمعنى آخر، فهي إقامة أطول بهدف الدراسة في الجامعة، وليس مهما إن كان السبب الفعلي للابتعاد قسرا أو جبرا، بل الأهم أنني وافيتها!

 

إذاً، كان علي أن أبدأ الدراسة في جامعة لندن (تحديدا في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية SOAS) في الثاني من أيلول 1996، وأن أسكن في شقة صغيرة وليس في الفنادق المريحة، وأن أعود طالبا (أجلي الصحون، وأنظف البيت، وهكذا).

 

أصبحت طالبا في الثاني والأربعين من العمر. لم أدَّع التقشف، ولم أعش طالبا في بحبوحة رغيدة. ولقد تدبر، مثل كل أب طيب المرحوم ميشيل حمارنة، أمور الإقامة وتسديد أقساط قرض البنك في عمّان، وتحمّلت مسؤولية إعالة الأسرة عن بعد، بأن اِستأذنت الكتابة في صحيفة “الأسواق”، وهي المنبر الوحيد المتاح في تلك الفترة، ذلك أن من تسبب في إبعادي إلى هناك كان يقبض بيد من نار على كافة مدخلات الإعلام والصحافة. وقد أكد الزميل والصديق مصطفى أبو لبدة مروءة الأخوة حين اختار لمقالتي صدر صفحته الأولى وأجزل المكافأة بسؤاله المباشر (كم احتياجات المنزل حتى أعمل المكافاة تلبية لذلك؟) وقد كان. وسأعود لاحقا لقصة المقالة الأسبوعية في “الأسواق”، لأنه هو من أرجعني إلى عمّان بهاتف من المرحوم سيدنا الحسين رحمه الله.

 

وصلت لندن وأقمت مؤقتا في فندق رويال غاردن قرابة الأسبوع وسويت أمور الجامعة بدعم ومؤازرة من الدكتور عباس كليدار ورتبت كل أموري الحياتية: السكن، والمواصلات، والأكل، والإقامة وكل شيء عن طريق (شيخي) شيخ الطريقة في الحب الأخوي مازن مصطفى. وانتقلت في غرة أيلول إلى شارع كروفورد مبنى 191 الطابق الثالث والمنطقة لا تبعد عن الجامعة مسافة بعيدة، إذ اعتدت لاحقا أن أقطعها في الغدو مشيا على الأقدام. كانت لندن بعين الطالب غير لندن بعين الموظف الذي لا يعرف أي شيء سوى واجب عمله.

 

مازن حسن مصطفى حين تقدمت بحقيبتي صعود الدرج، والتقينا وهو من بعدي يجرجر معي الحقيبة الثانية لمحت في مآقيه بعض دموع حرص على مسحها بسرعة قبل أن ندخل الشقة الصغيرة. كان حزينا بأكثر مما توقعت منه صلابة، جلس على طاولة مستديرة كانت للطعام، وأحلتها إلى مكتب بسيط فيما بعد، وأنا قبالته.. فجأة قال بتوازن شديد كأنه وزير خارجية يدلي بموقف دولته من أزمة (بالريش يا ابو حميد، وحياتك مؤقتة وبسيطة، وستعود أقوى مما كنت عليه قبلا). ولم أكن أدري أن معاناته النفسية حين رآني أباطح الحقيبة أول مرة مذ عرفني قد جعل ذلك الثوري العظيم النبيل ينحب من خلفي علي. كان في صورة أب وأخ وموجّه وهاله صورة الاندحار في الإمكانات من مستشار له مهابته إلى طالب عاد يتصعلك في حمل الحقائب!

 

أجبته بهدوء الغاضبين حد الضجر والمتعففين الراغبين في الخروج من الجو السلبي إلى الجديد، قلت له: أيها الصديق الغالي أنا فلاح نابلسي أجدادنا أكلوا الصخر وما هانوا، لا تقلق إن الله معنا. وقد كان بالفعل الله سبحانه مع البسطاء الطيبين ولقد تمكن منهم.

 

مازن حسن مصطفى هو وحيد والديه، وهو ظاهرة لم تتكرر، وهو حالة لا يُحكى عنها في مقال بل إنه يحتاج إلى كتاب كامل. شرفني بتقديمي إليه سماحة الحاج محمود سعيد رحمه الله، الذي كان منبعا ومنقعا للرجال، في ثمانينات القرن الماضي بعمان. وحين زرناه أول مرة في 1989 تعرفت على ذلك البحر الذي اسمه مازن.

 

كان مازن متربصا بي بأبوية حنونة وصارمة واصطنع لي برنامجا هو صممه وفق احتياجات رآها لي ضرورية، باشر الضغط بحتمية ووجوب تركي للتدخين لأنه لا يجوز أن ألهث من هول السجاير بعدها انتقل إلى عالم اللغة (لا تحكي عربي مع أحد منذ الآن)، وبعدها راح يطبق برنامجه الذي أراد أن يحشرني بما هو ضرورة قبل أن أعود إلى عمّان!

 

المسرح.. أدخلني لعالم المسرح البريطاني الرهيب، بدأه مع عرض لمسرحية برنارد شو “مهنة السيدة وارن”، وبعدها المسرحية الموسيقية Miss Saigon، وأكمل الحلقات كلها حتى وصلنا إلى مسرحيتي Swan Lake بطبعتها الإنجليزية، والمسرحية الموسيقية Cats.

 

وبعدها، انتقل إلى السينما وباشر معي بالفيلم التونسي العالمي “صمت القصور”، بعدها نقلني إلى روائع السينما الإيطالية: فيلم ساعي البريد “إل بوستينو”، وفيلم “سينما باراديزو الجديدة”، وبعدها الوثائقي البريطاني عن الأسطورة الأفريقية شاكا زولو.

 

زمَّني مازن إلى أمكنة مثل أين كان يجلس أوسكار وايلد، وماذا يعني القصر الملكي وندسور، ومعروضات متحف مدام توسو والمتحف البريطاني، وحديقة الحيوانات، وما حول لندن من ضواحي. لقد عرفت لندن على حقيقتها. وفي الليل تكون الشيخة بنت الحسب والأصول زوجة مازن، وهي التي درسته في جامعة بير زيت فشلع قلبها ورفعت هامة النحاس راية الولاء المعرفي والثقافي لمازن مثلنا جميعا بدون مواربة هو المعلم الأول؛ تكون هامة – مديرة برامج في MBC – قد أعدت أفخر أنواع الطعام، وصرت واحدا من الأسرة.. يا لتلك الليالي والأيام، وغالبا ما كانت تنضم الدكتورة فاتنة الدجاني فنغدو في مجلس ثقافي ثري.

 

ولم أعرف أن مازن هو من سيُرجعني إلى عمان بتلك السرعة الخارقة. وقبل أن أبدأ بشرح كيف تم ذلك أحترز بالقول.. إن مازن حسن مصطفى ابن المدرسة الثورية العابقة بالتمرد والرفض، لكنه على توقير واحترام خاص للمدرسة الهاشمية وتجربتها خاصة في الشق الفلسطيني لتلك التجربة.

 

كيف وقع أمر الإرجاع لعمان؟!

كلّما أتذكر القصة الآن، أقول إن مازن يبدو أنه بيَّت هذا كهدف مُتمنىً لي عنده ضمن برنامجه المكثف، وإلا فلماذا دمع يوم الاستقرار في الشقة؟ ولماذا قال لي بالريش؟ تلك هواجس تحتاج إلى قول منه على ية حال!

 

يوم الثالث عشر من شهر تشرين أول مرّ لزيارتي وقال هيا اِنهض علينا تنفيذ برنامج اليوم: أولا، هامة طابخة ملوخية، وهو ويعرف ضعفي تجاه هذه الوجبة من تحت يديها، وبعدين في ندوة لإشهار كتاب هام عليك حضورها. قلت له، وأنا متسمر على الطاولة، أرجوك أبو حسن إعفيني من الطلعة الليلة، عندي تحضير للجامعة، ثم لدي واجب كتابة مقالة غدا. قال بشيء من التهكم الأستاذي على تلميذه: عن شو بدك تكتب يا خوي يا احمد بكرا مقالك.. مكتوب يفترض؟! غدا عيد ميلاد الحسين، وهذا امتحان لك واختبار لولائك. إن لم تكتب عن ميلاد مليكك وأنت منفي مُبعد ستضع سلاحا في يد من أوصلك إلى هنا! ثم ساد بيننا صمت فظيع. وقال: هيا إلى العشاء، وتعود لكتابة مقالتك.. ونفذت.

 

الحق أن وقع كلماته أحدثت صخبا جواني عندي، رحت إلى العشاء ولم أنبس ببنت شفة. كنت أكتب في المقالة بعقلي وروحي وقلبي، واستعجلته الإياب وقد لبّى. قال لي: سأقرأ مقالتك على فنجان قهوة الصباح، غدا سأمر عليك.. سلام.

 

عدت، ظللت والمقال حتى الثانية فجرا، حين باشرت تفريغ ذاكرتي على الورق كان عنوان المقال “الهاشمي” فقط، وباشرته بشحنة من الحب والحزن والفخار، كان من أخطر ما كتبت في حياتي، ولقد تضمن المقال سطرا وضعته لجلالته دون غيره، ولقد وصل الرجاء.

 

صباح ذلك اليوم قبل أن أرسله بالفاكس للغالي مصطفى أبو لبدة، قرأه على فنجان قهوة عندي في الشقة المعلم مازن.. ظل ساكتا برهة من زمن بعد انتهائه، ثم فرك جبينه على طريقته حين يكثّف ما يريد قوله، وقال كلمتين فقط (المقال عظيم)! سألته بحب طفولي (عجبك؟). رد دون أن يخرقني بنظراته على عادته حين يقول، بل أشاح عني كليا، (سيكون له ما بعده)، وغيَّر الكلام عن المقال.

 

في اليوم التالي نشرت الأسواق ذلك المقال. كان مصطفى أبو لبدة هو من اخترع عنوان الزاوية (من بعيد)، وكان مقال (الهاشمي من بعيد) حديث كل عمّان المعنية بالقصص السرية. تلقيت هاتفا من المقر السامي بعد الغروب، كان على الخط الآخر السحر، والسر، والكبرلية، والملوكية، والهاشمية، والنبل.. كان الحسين رحمه الله.. (أحمد شو بتعمل بالبعيد؟! أريدك غدا في عمّان). بكيت، فرحت، أسعدني ذلك، لست أدري! ليست مهمة تلك التفاصيل.. بحثت عن مازن الذي كان أوصلني للتو وغاب، وجدته بعد لأي، أخبرته بفرحتي الطفولية، هو الوحيد الذي أخبرته بفرحتي. أجابني برزانة تامة: لم يفاجئني الحسين بأخلاقه، سأكون معك إلى المطار غدا.

 

خابرت في عمان ثلاثا: ناصر جودة لأنه آخر من كان معي لحظة الوداع مصطحبا عبدالله العتوم، وأخبرت زوجتي بأني قادم غدا، وأعلمت عبد الله العتوم بخبر الرجعة. لقد كانت فرحتي بالرجعة كي أرد الاعتبار لتلك النظرة التي تركها ولدي رفعت من عينيه الخضراوتين الحميمتين لحظة الوداع في المطار في عمان، حين كان كل الصحاب هناك وأنا الوحيد الذي أخرج من بينهم. كان سؤال رفعت أول وعيه بمداراة الصمت النبيل، كنت أبحث عن عينيه كي أرد اعتباري فيهما. إن من يملك قلما لا يُهزم ومن كان مع الله لن يخذل ومن كان الوطن هدفه دون المرور في تمويل سفارة أو استقواء بها فإنه مهما عانى فإن حياته تكون سعيدة. الوطنية ليست رأيا والخيانة ليست وجهة نظر.

 

كانت عمّان في السادس عشر من تشرين الأول، بعد غياب ثلاثة أشهر، مبلولة وادعة

فيها روائح التداخل بين التراب وسمائها. حين تركن عمّان للهدوء وحين يسترد الملك زمام اللعبة بعد أن يرخي سدولها برغبة منه وبقرار له تكون أكثر مدن العالم بهاء.

 

كان بانتظاري شاب أعرفه ويعرفني. سلمني جهازي الخلوي الخاص بالعمل والتصريح الأمني، وتوجه من فوره من المطار إلى القيادة العامة في العبدلي. كانت نهى باشا عصفور تنتظر مقدمي، قالت بعد أدفء ترحيب تلقيته في حياتي جلالة سيدنا أمر أن تلتحق بالاجتماع فور وصولك. اِستأذنت لي الباشا نهى ودخلت. كان الضوء نورا، وكان الملك وطنا بأكمله. جلست في عمان أسبوعا ورجعت إلى دوامي، وخاب من بشَّر ربعه بأن (خْلِصنا منه)! فحتى الموت لا يغيب كاتبا، وكل مؤامرات جماعة الاختطاف لا تلغي قلما.

 

كان مازن مصطفى أول مشروع في حياتي لإعادة البناء، كان ملهما ومعلما في ظرف صعب وصاخب، مكنني من أن أجعل من محبس بعيد فرصة للعودة السياسية وتجديد الذات.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى