المستعمر والمحرر
بقلم: أحمد الصراف

النشرة الدولية –

أسست، مع خمسة شركاء آخرين، ومن جنسيات مختلفة، مشروعاً تجارياً قبل نصف قرن. توفي أحد الشركاء، وغادر البلاد اثنان عائدين إلى وطنهما، وبقيت مع الشريكين الآخرين ندير الشركة، ونقوم بتوزيع الأرباح على ورثة الشريك الأول، وتحويل أرباح الشريكين الآخرين لهما، سنوياً، بانتظام.

بعد فترة أحس الشريكان اللذان كانا معي بنوع من الغيرة، فهما اللذان يقومان، بالتعاون معي، بكل الأعمال، ومع هذا يتنعم بقية الشركاء بالأرباح من دون بذل جهد في الإدارة! واقترحا استقطاع جزء من أرباح الشركاء غير التنفيذيين، وتوزيعها علينا!

رفضت الفكرة، وذكرتهما بأن كل شريك قام عند التأسيس بالمخاطرة بماله ووقته، وكان لكل واحد دوره الحيوي في نجاح الشركة، ولا يجب معاقبتهم أو معاقبة ورثتهم فقط لأن ظروف حياتهم تغيرت، ومن الخطأ أن نأتي الآن ونبخسهم حقهم؟

***

منذ أن وعيت وأنا أقرأ وأسمع الكلام الكثير عن «كفاح الآباء والأجداد»! ولم أؤمن يوماً بهذه المقولة المبالغ فيها، ولا أعتقد أنهم كانوا أفضل من غيرهم، فجميع الشعوب عانت وكافحت، فلم يكن لها خيار آخر غير الجوع. كما تزداد وتيرة العزف على فاصل التضحية عند الحديث عن الكيفية التي «استولى» فيها «المستعمر الإنكليزي» على ثروتنا النفطية، وكيف قبلوا تالياً بمبدأ المشاركة، وكيف أداروا الشركة لمصلحتهم، وكيف سرقونا جهاراً نهاراً، وحرمونا من خيراتها. وادعى البعض أنه كان بإمكاننا إدارتها من خلال الاستعانة بالخبرات الأجنبية، فالعقول كانت لدينا والمال كان بين أيدينا(!)

***

قامت الكويت في مرحلة تالية بتأميم صناعتها النفطية بأكملها بقرار سيادي ونتيجة ضغط شعبي، وكانت أول دولة، بعد ثورة مصدق، تقوم بذلك، ولكن تعرضت الشركة لإساءة استغلال صارخة، ولا يعني ذلك أن قرار التأميم كان خاطئاً، بل تم الأمر من دون تخطيط ولا ترتيب وبعجالة، كما لم نمتلك ما يكفي من الكفاءة والخبرة، والأهم من ذلك «الأمانة»، لإدارتها!

***

أقامت شركة النفط «الأجنبية» مدينة كاملة لإدارة عملياتها في منطقة شبه مرتفعة سميت «الأحمدي»، تيمناً باسم الحاكم الراحل الشيخ أحمد الجابر، وأصبحت المدينة الجديدة خلال فترة قصيرة، نموذجية بكل المقاييس، وكنا نقضي عطلة نهاية الأسبوع بين أشجارها الباسقة «الكشتة»، ونتبضع من محالّها التي كانت تبيع ما لم يكن متوافراً في دكاكين العاصمة. كما كنا نتريض في حدائقها الغنّاء، وكان مجرد قيادة السيارة في طرقاتها المنظمة متعة ما بعدها متعة!

بعد تأميم النفط، رحلت إدارة الشركات النفطية، وتركت كل شيء بيد «الإدارة الوطنية»، ولم تكن هذه «شريفة» في غالب الأحوال، وبدأ النهب والتخريب والتردي منذ يومها. وبالرغم من أن شركة النفط الأجنبية تركت الأحمدي، المنفردة بنموذجيتها، في أحسن حال، فإن وضعها النموذجي لم يستمر طويلاً، حيث فشلت الإدارة الجديدة وما جاء بعدها في المحافظة على رونقها، بل تم تخريبها. والمؤسف أننا فشلنا، على الرغم من إعجاب الجميع بطريقة تخطيط الأحمدي وطريقة بناء مساكنها، في أن نبني ما يماثلها، ولا حتى بمجاراتها في ما كانت تقدمه من خدمات لساكنيها، ومن سكن الأحمدي يومها يعرف معنى ذلك جيداً، فالغاز مثلاً كان يصل إلى بيوتها مباشرة، في الوقت الذي لا نزال نقوم فيه، وبعد سبعين عاماً من تجربة الأحمدي، بشراء سلندرات غاز الطبخ، القذرة والثقيلة، من الجمعية التعاونية إلى البيت!

***

أطلقنا عليهم المستعمرين، لأنهم استعمروا الأرض وجعلوها صالحة! وأطلقنا على أنفسنا المحررين، لأننا تحررنا من كل منجزاتهم!

زر الذهاب إلى الأعلى