غولديب.. وخرافة «أكلونا الأجانب»
بقلم: أحمد الصراف
النشرة الدولية –
كان صبياً في الثامنة من عمره عندما امتلأت ذاكرته ومقلتاه برؤية دماء القتلى تسيل كالأنهار أمام عينيه نتيجة أحقاد وعداوات دينية قاتلة، بعد أن قرر زعماء الأقلية المسلمة في الهند، في قرار متسرع، الانفصال عن الوطن الأم، فحدثت الهجرة الكبرى في تاريخ البشرية مع انتقال عشرات ملايين المسلمين من الهند إلى باكستان، وما يماثلهم من الهندوس والسيخ إلى الهند، عام 1947.
فقد عشرات الملايين أملاكهم وعملهم ومستقبلهم، وفقد أكثر من مليون أرواحهم، نتيجة الانفصال الأكثر كلفة ودموية في التاريخ، وبعدها ببضعة أشهر وقعت الحرب بين الدولتين على تبعية «جامو وكشمير»، وانتهت من دون حسم، ولا يزال وضع كشمير يؤثر في الجغرافيا السياسية لكلا البلدين، مع تبعيتها حالياً للهند.
***
فقد الصبي «غولديب» رغد العيش مع اضطرار أسرته إلى ترك بيتها في باكستان، والانتقال من معسكر مهاجرين لآخر في الهند، ولم يتكمن من إكمال دراسته بعد أن عمل في مختلف المهن.
قسوة الحياة والطموح دفعاه إلى تلبية دعوة خاله، الذي كان يعمل في الكويت، ليلتحق به عام 1957، حيث عمل معه بضع سنوات، ولكن طموحه كان أكبر من أن يستمر عاملاً أو موظفاً، وقاده الحظ سنة 1960، وهو في العشرين من العمر، للتعرف على «إبراهيم الميلم»، الذي عرض عليه العمل معه في تجارة قطع غيار السيارات. أثناءها تلقى عرضاً سخياً من شركة البشر والكاظمي، وقرر قبول العرض، ولكن فهد الميلم كان من الذكاء بقدرة غولديب، فقدم له عرضاً لم يستطع رفضه، حيث اقترح عليه أن يشاركه، وأخوته الثلاثة الآخرين، في شركة لقطع إطارات السيارات، وأن يكون «أخاهم» الخامس، بحيث يكون لكل منهم ما نسبته %20 من الشركة، وكانت تلك بداية بناء إمبراطورية «مجموعة الميلم»، الكبرى في عالم إطارات السيارات، التي وصل عدد موظفيها اليوم إلى أكثر من 900 بين الكويت ودبي.
ت***
يقول «غولديب لامبا»، في مقابلة على اليوتيوب مع الإعلامية القديرة «شايتالي روي»، إنه جاء إلى الكويت قبل 65 عاماً، ولم يمتلك شيئاً سوى حب المغامرة، وإرادة يصعب قهرها، وكانت الحياة فيها صعبة، خصوصاً في بداياتها، وبحاجة إلى كل جديد. وكانت قسوة الطقس تدفعه ورفاقه إلى النوم على رمال البحر ليلاً، هرباً من الحر الشديد. كما كانوا يلجؤون ظهراً إلى النوم داخل صناديق قطع الغيار الخشبية الكبيرة، بعد رشها بالماء لكي تصبح مقبولة إلى حد ما. وقال إنه قاسى الكثير قبل أن يصل إلى ما وصل إليه، فالطريق لم يكن معبداً ولا سهلاً! وتحدث عن خسارته لكل ثروته التي بناها على مدى عقود مع وقوع الغزو والاحتلال الصدامي، حيث أخلى الجيش العراقي مخازنه من كل إطار وبطارية وقطعة غيار، فاضطر إلى ترك الكويت ليبدأ من جديد في دبي، ومن هناك، وفي ذروة محنة الكويتيين، سافر غولديب إلى أسبانيا، حيث كانت كل أسرة الميلم، تقريباً، تقضي الصيف، وسلمهم نصف ما كان معه من دولارات، وكان مبلغاً ضخماً بكل المقاييس، خصوصاً في تلك الظروف التي لم يكن أحد على ثقة بأن الكويت ستعود. حفظ له شركاؤه الكويتيون مبادرته وأمانته وتضحيته الكبيرة، وما إن بانت بوادر التحرير حتى وفروا له مبلغ 15 مليون دولار من أحد مصارف دبي ليبدأ ببناء الشركة من الصفر!
***
يحسد الكثير من المواطنين الأثرياء «الأجانب» على ما حققوه من ثراء في الكويت، ولكن الحقيقة أن ثروات أغلبية هؤلاء لم تأتِ بسهولة، فقد ضحوا وعانوا الكثير، ولم يمنع أحد المواطن من أن يقتدي بهم، وهذا ما فعله الكثيرون. أما الجلوس في البيت أمام التلفزيون ومشاهدة المباريات، ولعن وشتم الغير لأنهم أثروا من خير البلاد، فهو تصرف والسخف.. سواء.