“ورقة التوت” اللبنانية كانت على متن مسيّرات “حزب الله”

النشرة الدولية –

كادت المسيّرات التي أطلقها “حزب الله”، يوم السبت الماضي بحجّة تصوير حقل “كاريش” الغازي أن تنسف مساعي الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين لإحياء مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.

واشنطن التي كانت قد لبّت رغبة لبنان في التدخّل لإحياء الوساطة، لوّحت بتجميد مساعيها، إذ إنّ سلوك “حزب الله” أظهر أنّ تعهدات السلطة اللبنانية التي كانت قد تبلّغتها قبل وصول هوكشتاين الى بيروت وأثناء زياراته لها ” لا قيمة لها”، فيما عمدت تل أبيب التي كانت قد قدّمت ردّاً “ذا طابع إيجابي”على العرض اللبناني ، إلى إبلاغ الوسيط الأميركي، بعد خطوة “حزب الله” التي تزامنت مع انتقال رئاسة الحكومة الى عهدة يائير لابيد، بأنّها ترفض الرسالة التي حملتها المسيّرات لإيهام الرأي العام بأنّ “حزب الله” هو “ضابط الإيقاع”، وهي في طور تجهيز ردّ عسكري قد يطال كلّ أبراج المراقبة التي وضعها الحزب، في ظلّ عجز الجيش اللبناني و”اليونيفيل”، على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، ولو شكّل ذلك مدخلاً الى حرب جديدة.

وكان لا بدّ من أن تبدّد السلطات اللبنانية المختصة هذه الأجواء السلبية التي تركها حطام المسيّرات الثلاث، حتى تعود مساعي إحياء المفاوضات الحدودية البحرية الى سكّتها.

رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي الذي كان قبيل عملية “حزب الله” قد أعلن أنّه، بما يتعلّق بالمساعي الأميركية ” قد وصلتنا معلومات مشجعة” وجد نفسه مضطرّاً إلى أن يُطلق و”وزير خارجيته” عبد الله بو حبيب، بعد صمت هنا و”ضياع في التبرير” هناك، موقفاً واضحاً ضدّ عملية “حزب الله” التي وصفها بيان صادر عنهما بأنّها عمل “غير مقبول ويعرّض لبنان لمخاطر هو في غنى عنها(…) وجرى خارج إطار مسؤولية الدولة والسياق الديبلوماسي “.

ولكنّ “حزب الله” ليس غبيّاً، فهو يُدرك أبعاد العملية التي أقدم عليها، عن سابق تصوّر وتصميم، ولهذا كثرت الأسئلة التي حاولت تفسير خلفياتها، وقد برز منها الآتي:

أوّلاً، هل هي على صلة بظهور التشدّد الأميركي في مفاوضات الدوحة غير المباشرة مع إيران ضد “الحرس الثوري الإيراني” الذي يرفض أيّ اتفاق لا تسبقه إزالته من قائمة الإرهاب الأميركية؟

ثانياً: هل “قانون الصدفة” جعل هذه العملية تترافق مع وجود وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في سوريا حيث كانت إسرائيل قد أغارت، قبل ساعات من وصوله، على “مخازن” خاصة ب”حزب الله” و”الحرس الثوري الإيراني”، جنوب طرطوس؟

ثالثاً، هل هي رسالة إلى الرئيس الأميركي جو بايدن، قبل وصوله الى إسرائيل ورام الله ومنهما الى المملكة العربية السعودية، وجّهتها إيران عبر إحدى أهم أذرعها في المنطقة إلى واشنطن التي ظهر، من جملة أحاديث أدلى بها القائد السابق للقيادة الوسطى الأميركية كينيث ماكينزي، أنّها عملت ولا تزال على إيجاد إطار تحالفي ضد الدول الخصمة لإيران، لتوفير مظلّة جوّية تقيها من تبعات صواريخها الباليستية ومسيّراتها؟

رابعاً، هل هي رسالة خاصة من “حزب الله” إلى جميع المعنيين بالشأن اللبناني أنْ لا مجال للتقدّم في أيّ مسألة من دون أخذ مصالح “حزب الله” بالإعتبار، لا سيّما وأنّ أوّل زيارة سوف يقوم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد ستكون لفرنسا التي يلعب رئيسها إيمانويل ماكرون دوراً ريادياً يهدف الى إنقاذ لبنان اقتصادياً، وحيث لشركة “توتال” مهمّة ريادية في خطط التنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية اللبنانية؟

قد تكون خلفية عملية “حزب الله” تحتضن كلّ هذه العوامل في آن، لكنّ ما هو مؤكّد أنّ هذا الحزب، يقدّم، مرّة جديدة، دليلاً إضافياً على أنّه يجد مطلق الحريّة ليفعل ما يراه مناسباً، سواء لاءم سياسة الدولة وتعهدات سلطاتها أو ناقضها، وسواء صبّ في المصلحة اللبنانية أو انعكس سلباً عليها، وسواء تناغم مع ما كان قد أطلقه من مواقف أو تناقض معها.

وهذه حقيقة يُدركها كثيرون في لبنان، ولهذا فإنّ المشكلة الجوهرية التي تُعاني منها “بلاد الأرز” لا تكمن في عدم فهم “حزب الله”، ولكن في طبقة سلطوية، ومن أجل تحصين مكتسباتها أو تحقيق طموحاتها، تزعم أنّ نهج هذا الحزب لا يتعارض مع وجود الدولة، وأنّ وظيفته لا تتضارب مع وظيفتها، وأن تطلعاته لا تتناقض مع تطلعاتها.

وعليه، إنّ “ورقة التوت” التي طالما استعملها المسؤولون اللبنانيون لستر عورات رهن لبنان لإرادة “حزب الله”، كانت على متن المسيّرات!

ما من أحد في لبنان يجهل أنّ التصدّي الميداني ل”حزب الله” يقود الى حرب أهلية ترفضها غالبية اللبنانيين، لكن ما من أحد في لبنان، في الوقت نفسه، لا يدرك أنّ تبرئة الدولة وجميع اللبنانيين من أعمال هذا الحزب المنسّقة، بشكل تام، مع “الحرس الثوري الايراني”، تفترض أن يتم النأي بالسلطة عن أيّ مشاركة مع هذا الحزب إلى اليوم الذي يصبح فيه حزباً سياسياً، مثله مثل سائر الأحزاب اللبنانية.

والموقف المندّد بعملية “حزب الله”، وفق البيان الذي أصدره ميقاتي وبو حبيب، أمس، يُفترض أن يكون سياسة دائمة وعامة للحكومات، إن كانت تريد فعلاً تجنيب البلاد والعباد، مواصلة دفع الكلفة الباهظة لأعماله.

و”حزب الله”، وحتى حصول تطوّر كبير من شأنه أن يقلب المعطيات الحالية رأساً على عقب، لن يغيّر فاصلة واحدة في نهجه القائم على وجوب “تأبيد” سلاحه وإبقائه في خدمة “الأمّة التي يحكمها الولي الفقيه”.

وهو من أجل هذا الهدف مستعد لفعل أيّ شيء مهما كانت تكاليفه، بما في ذلك الإقدام على “الطريقة الأورويلية” على تزوير التاريخ لخدمته.

وبمناسبة احتفائية “حزب الله” بحلول الذكرى السنوية الاربعين لتأسيسه، أعادت وسائل إعلامه نشر وثيقته السياسية التي كان قد أصدرها في العام ٢٠٠٩، في رسالة واضحة إلى أنّها لا تزال صالحة للعام 2022 وما بعده.

وقد بيّنت هذه الوثيقة أنّ “حزب الله” في تعاطيه مع تاريخ الصراع اللبناني-الاسرائيلي قد تعمّد تزوير المعطيات، بحيث غيّب تغييباً كاملاً وشاملاً تأثير “العمل الفلسطيني المقاوم” عن التسبّب بالكثير من الويلات التي دفعها لبنان عموماً والجنوب خصوصاً.

نسبت الوثيقة هذه الويلات حصراً، وبسلوك تزويري فاضح، الى إهمال الدولة وضعفها، إذ اعتبرت أنّ المآسي التي تسبّبت بها إسرائيل حصلت “في ظل غياب السلطة اللبنانية التي تركت ارضها وشعبها نهباً للمجازر والاحتلال الاسرائيلي من دون أن تتحمل مسؤولياتها وواجباتها الوطنية”.

ويعرف القاصي والداني أنّ “منظمة التحرير الفلسطينية” التي حاولت الدولة اللبنانية عبثاً، مراراً وتكراراً، أن تضبطها في إطار السيادة، اعتمدت، مستقوية بسياق اقليمي قبل أيّ سياق طائفي داخلي، النهج الذي يلائمها، الأمر الذي جرّ، في وقت لاحق، الى غزوات وحروب أهلية، ارتدت سلباً على لبنان والقضية الفلسطينية في آن.

وهذا تحديداً، بالإستناد أقلّه إلى بيان الرئيس ميقاتي والوزير بو حبيب، ما أقدم عليه “حزب الله”، يوم السبت الماضي، بإطلاق مسيّراته نحو حقل “كاريش” الغازي، بما يتناقض ومصلحة الدولة وتعهّداتها.

وتزوير التاريخ في وثيقة “حزب الله” التي أعيدت الى الواجهة، قبل أيّام قليلة، لا يدخل في سياق “الفن من أجل الفن”، بطبيعة الحال، بل هو جزء من عملية شاملة تهدف الى إشاحة حقائق ثابتة عن وعيّ الرأي العام.

وتفيد هذ الحقائق التي يريد “حزب الله” التعمية عنها بأن لا مجال لإقامة دولة قادرة وعادلة وقوية، كما يشترط هو للبحث في إمكان تسليمها سلاحه، إذا كانت هذه الدولة محرومة من حقّها في الامساك بالقرار العسكري ليأتي متكاملاً مع الخطط الموضوعة لمراعاة مصالح اللبنانيين العليا وتعهدات المسؤولين أمام المرجعيات الدولية المختصة.

ويهدف “حزب الله”، كما بيّن في هذه الوثيقة، الى إلزام اللبنانيين، بما يخالف كلّ دروس التاريخ وكلّ معطيات الحاضر، بالتسليم ل”المقاومة” بالأدوار التي تقوم بها على اعتبار أنّها “ضرورة وطنية دائمة، دوام التهديد الاسرائيلي ودوام اطماع العدو في ارضنا ومياهنا ودوام غياب الدولة القوية القادرة”.

إنّ “حزب الله” الذي يزعم أنّه يدافع عن لبنان وعن ثرواته، كاد، بما فعله، يوم السبت الماضي، أن يضيّع الثروة الإفتراضية الباقية للبنان وأن يُقحم البلاد التي تُعاني الأمرّين، من أجل إيجاد الخبز والماء والدواء والكهرباء، في حرب، مهما كانت نتائجها، لن تكون، بالنسبة للبنانيّين، سوى كارثة إضافية تضاعف مآسيهم الحالية.

Back to top button