كاتيا الطويل تبحر في مفاهيم فرانسواز ساغان الحياتية والابداعية

الروائية اللبنانية صاحبة روايتي 'السماء تهرب كل يوم' و'الجنة أجمل من بعيد': اللا اطمئنان المحيط بي مرآة للااطمئنان الموجود في داخلي

النشرة الدولية –

ميدل ايست اون لان – كه يلان محمد –

حجزت الروائية الفرنسية  فرانسواز ساغان موقعها في صفوف النجومية مع إصدار باكورة أعمالها “صباح الخير أيها الحزن” إذ أثارت اهتمام الوسط الثقافي والجمهور القراء في آن واحد وكان النصُ مدوياً بحبكته التي تقومُ على رصد المشاعر المتناقضة لدى البطلة “سيسيل” وهي الأنا الأخرى للذات الكاتبة في نزقها ومناوراتها الماكرة ومن المعلوم بأنَّ ساغان قد سجلت بيان تمردها على أوراقها المدرسية معلنةً “أنا لا أنتمي إلى هذا العالم المتزمت بالمرّة. لا أحبّ أن أكون ابنةَ عائلة غنية” عليه غامرتْ بملاحقة مصيرها في مكان آخر، ولم تسمعْ سوى هدير الرغبة.

وما خبرته صاحبةُ “إبتسامة ما” من تجارب متعددة في معتركها الوجودي كان عاملاً أسياسياً في نضوج أفكارها بشأن الحياة والإبداع هنا في إطار هذا الحوار تناقش الروائية اللبنانية كاتيا الطويل رؤية فرانسواز ساغان حول مفاهيم حياتية وابداعية بدءاً من الشهرة مروراً بالحب وصولاً إلى العزلة.

يذكرُ أنَّ الطويل قد نشرت روايتين “السماء تهرب كل يوم ” و”الجنة أجمل من بعيد” وتستمدُ وعيها المتجدد بحركة الإبداع العالمي من خلال متابعتها المستمرة للمشهد الأدبي ودراستها الأكاديمية.

No photo description available.

1-الافتقار إلى روح الفكاهة عاهة فكريّة لا أحبّها. هل يهمّك الاحتفاظ بروحيّة فكاهيّة في شخصيّتك؟

أظنّ أنّ روح الفكاهة والفنّ والحبّ من المُتع القليلة في الحياة التي تمنح الإنسان شيئًا من الراحة والمتنفّس. الحياة قاسية بما فيه الكفاية، فليكذب الإنسان على نفسه وليدّعِ السعادة وإن للحظات عابرة. طالما آمنتُ أنّ الظروف والمآسي أحداث لا يمكن للإنسان أن يسيطر عليها، فكما يقول الرواقيّون (stoiciens) في مذهبهم الفلسفيّ: نحن لا نسيطر على “الفعل” الذي يقع إنّما يمكننا أن نسيطر على “ردّة الفعل” التي نقوم بها. نحن مجرّد ردود أفعال على أفعال تقع حولنا ولا حول لنا ولا قوّة فيها. والإنسان الذي لا يستطيع أن يكبح جماح مشاعره، الإنسان الذي لا يستطيع أن يخلق مسافة بينه وبين نوائب الدهر وأن يضحك من حين إلى آخر لن يستطيع الاستمرار. يمكن للإنسان أن يحزن بقدر ما يشاء عندما يكون وحيدًا إنّما بين الناس فواجب عليه أن يمتلك روح فكاهة وخفّة وظرفًا وقدرة على تحجيم الأمور والترفّع عنها.

2 -“يجذبني كلّ ماهوليس مطمئناً” هل يمكن لك الاقامة في منطقة لااطمئنان فيها؟

أظنّ أنّنا في شرقنا الغالي محكومون بحياة من اللااطمئنان والنزاع وهوأمر لا يزعجني ولا يحثّني على الابتعاد. على العكس. مناطق اللااطمئنان هي مناطق الإبداع والحبّ والغضب والثورة واليأس والخوف والمشاعر العاصفة. الجوع للسلام والاطمئنان محفّز هائل. أجد أنّ اللااطمئنان المحيط بي مرآة للااطمئنان الموجود في داخلي. أنا إنسان قلق خائف عمومًا ومناطق الاطمئنان ستزيد من اضطرابي لأنّ المحيطين بي لن يفهموا انفعالاتي. أخشى الموت بقدر ما أخشى الحياة ومن عنوان روايتي الثانية “الجنّة أجمل من بعيد” يمكنك أن تستشفّ أنّني من محبّي مناطق اللااطمئنان. الجنّة نفسها تخيفني وأظنّ أنّ الإنسان العاقل والقارئ المنعزل سـ”يشقى في النعليم بعقله” تمامًا كما قال المتنبّي. كلّ مكان في هذا العالم هومكان لااطمئنان للأسف.

3 – أنا أؤمن بالرغبة التي قد تدوم سنتين أوثلاث على أكبر تقدير، أما الحب فلا تسألوني عنه. أين تتقاطع رؤيتك للحب مع مضمون كلام صاحبة “إبتسامة ما”؟

أنا أيضًا لا تسألني عن الحبّ فنظرتي إليه تحرّريّة بشكل فائض. أنا أؤمن أنّ الإنسان كائن متغيّر، وبالسرعة التي يحبّ فيها سيتوقّف كذلك عن الحبّ. وهو أمر مقبول وطبيعيّ وإنسانيّ. أؤمن بالحبّ وبالوفاء وليس بالزواج ولا بالتضحية. الزواج والمجتمع والعائلة والتضحية أمور ضروريّة وجيّدة للمجتمع لكنّها تختلف عن الحبّ ولا تشبهه. من يبحث عن الاستمراريّة في الحبّ كمن يبحث عن نقطة مطر في الصحراء. أتمنّى لنفسي أن أعيش قصص حبّ كثيرة، لا أن أتزوّج. الزواج هو لمن يخشى الوحدة، والحبّ هولمن يرتمي في هاوية لا يُرى لها قاع ولا يُعرف لها مآل.

4 – المال لا يشتري السعادة ولكني أفضل البكاء في جاغوار على البكاء في الباص. هل تعتقدين بوجود الفرق بين التعاسة الباذخة والتعاسة غير المبهرجة؟

الحياة مكان حزين. فيها الموت وفيها المرض وفيها الخيانة وفيها الغدر وفيها القسوة. الإنسان العاقل إنسان حزين في أعماقه لأنّه يعرف أنّ كلّ ما يقوم به هباء. الإنسان العاقل يدرك أنّه مجرّد شخصيّة في كتاب كبير لا حول له فيه ولا قوّة ولا كلمة. العمر قصير والناس مخيفون والقدر غير متوقّع والرياح لا تجري أبدًا كما تشتهي السفن. ما زلت حتّى اليوم لا أفهم المغزى من حياتنا كبشر، نعيش سنوات من التوجّس والتردّد والتوتّر، نعيش خيبات وآلام وخسارات ثمّ نعيد الكرّة كلّ يوم. أنا شخصيًّا أؤمن أنّ المال يشتري السعادة، يشتري كلّ ما يحتاج إليه المرء ليعيش سعيدًا في ظلّ هذه المآزق كلّها.

5-لقد قدّمَت الكتابة لي المتعة المزدوجة في أن أروي للآخرين وأروي لنفسي وهي مثل السير في بلاد مجهولة وساحرة ولكنها أحياناً مصدر إذلال عندما لا يستطيعُ المرءُ كتابة ما يريد. هل تجدينَ ذاتك الكاتبة فيما تقوله ساغان بشأن الإبداع؟

في الكتابة متعة ترقى بالكاتب إلى مصاف الآلهة. الكاتب إله صغير، يجعل نفسه الآمر الناهي في عالم يخلقه وينفث فيه من روحه ومن ذاته ومن ماضيه. كلّ كاتب يحلم بكتابة رائعة تخلّد اسمه، ففي النشر بعد الكتابة شيء من الرغبة بالأبديّة وبالخلود وهي رغبة موجودة في الإنسان منذ سفر التكوين. لا أوافق على أنّ الكتابة قد تكون مصدر إذلال، الكتابة تراكم محاولات وتجارب. لا يصبح الكاتب كاتبًا بين ليلة وضحاها. الإنسان الذي يكتب هوفي كلّ يوم مشروع كاتب، هوفي كلّ يوم مشروع إبداع. ينظر إلى ما حوله، يراقب التفاصيل، يتأمّل في الحياة والبشر والطِباع ويكتب. كلّ شيء في الحياة موجود ليخدم الكاتب، أمّا الإبداع فهوالحلم الأكبر، الحلم الوحيد. أن يكتب الكاتب رائعة واحدة أمر كافٍ ليعيش آلاف السنين وجسده تحت التراب.

6 – بعد نجاح روايتها الأولى صرحت ساغان بأنها متضايقة من النجاح الذي أصبح قراراً سرمدياً هل يتحول فعلاً النجاح إلى مصدر لملل؟

النجاح لدى الكاتب المرهف مصدر عبء وخوف وجزع، وليس مصدر ملل. هومسؤوليّة. النجاح هواسم الكاتب وحياته بعد موته. أنا شخصيًّا إن حالفني الحظّ أتمنّى أن أنجح بعد أن أموت وليس وأنا على قيد الحياة. أمّا الملل فأرى أنّه لا يمكن لكاتب أن يملّ. الحياة زاخرة بالوجوه والمواقف والتفاصيل، الكتب نفسها مغامرات لا تنضب. الملل شعور يراود الإنسان المغرور وحده. أنا نفسي أتمنّى لوأعيش العمر عمرين: عمر لأقرأ وعمر لأعيش مع الناس وأفهمهم. الإنسان كائن معقّد والمجتمع فضاء ثريّ، قد نشعر بالنفور من بعض الطباع، لكنّ الكاتب الحقّ لا يحكم ولا يقسو، يمتصّ محيطه ويحتويه. فلوبير وتولستوي عندما كتبا قصص مدام بوفاري وأنّا كارنينا كتبا قصص عشق وأحلام وهرب من الفراغ ولم يحكما على بطلتيهما كما قد يفعل امرء عاديّ يرى فيهما زوجتين خائنتين. الكاتب لا يملّ ولا يقسو، الكاتب الحقّ عينان تحدّقان وأذنان تمتصّان وفؤاد لا يرتوي.

إلى أي مدى وفقت الروائية الفرنسية فرانسواز ساغان في تعريف حقيقة الحياة؟

7 -.تشيرُ فرانسواز ساغان في مذكراتها إلى ثلاثة عناوين قد حفرت تأثيراً عميقاً في تكوينها المعرفي منها “الإنسان المتمرد، قوت الأرض، فصل من الجحيم” ماذا عن الكتب التي تُعد علامة فارقة في حياتك؟

التكوين المعرفيّ هوتراكم، هوساعات طويلة من القراءة تتغيّر في أثنائها الذائقة الأدبيّة. لا يمكن أن أعدّ في هذا الموضع الكتب التي أثّرت فيّ، فهي من الكثرة بما لا أذكره. أميل عمومًا إلى الكلاسيكيّات وإلى كتب الميتولوجيا. لديّ كتّاب أعشقهم، منهم: موراكامي، خالد حسيني، تولستوي، دوستويفسكي، غوغول، باريكّو، كالفينو، زولا، فلوبير، مالرو، بورخيس، ماركيز، إيزابيل ألليندي، حنّا مينه، يوسف حبشي الأشقر، جبّور الدويهي، نوال السعداوي، غادة السمّان، إلخ.

8 -.”في النهاية الحياة ماهي إلا العزلة” إلى أي مدى وفقت ساغان في تعريف حقيقة الحياة؟

طرحتَ عليّ الآن أكثر الأسئلة التي تخيفني. سألتني عن الحبّ وعن الحزن وبقيت العزلة طبعًا. العزلة موهبة، العزلة مقدرة وتدريب وتهذيب للنفس. لقد وضعتُ وشم كلمة “أنا” على يدي بين الإصبعين اللتين أكتب بهما كي أتذكّر دومًا أنّني وحدي في هذا العالم المخيف وأنّني يجب أن أتعلّم أن أعيش مع نفسي. العزلة والوحدة أمران مختلفان: العزلة تهذيب للنفس، والوحدة قدر لا مفرّ منه. يبقى أن يجيد المرء اختيار معاركه والانصراف إلى شؤونه وتعلّم الجلوس إلى ذاته لصقلها وترويضها وتضميد جروحها.

9 – كتب ديني سيرة والدته ساغان مع أن الأخيرة نشرت مذكراتها وهي على قيد الحياة وأنت مع أنّك ماشاء الله في مقتبل العمر هل تتوقّعين بأنّ هناك من يبادر بكتابة سيرتك أوأنّ الأمر لا يعنيك؟

أتمنّى ألاّ يبادر أحد بكتابة سيرتي ولا ذكرياته معي فالإنسان سرّ ولا أحد يمكن أن يمسك بدواخله تمامًا، ولا حتّى هونفسه. لا أظنّ أنّ أحدًا سيتمكّن من الإمساك بـ”كاتيا” وتقديمها بكلّيّتها ومتاهاتها. أضيف إلى ذلك أنّني أتمنّى ألاّ يبادر أحد بنشر مراسلاته معي فهوأمر يرعبني نظرًا إلى ما حصل في عالم الأدب بعد نشر مراسلات بين كتّاب عظماء. أقسى ما أتمنّاه وما أتمنّى أن أقوم به قبل موتي هوكتابة رسالة وداع لهذا العالم، فقط لا غير.

زر الذهاب إلى الأعلى