قبول تركيا لعضوية السويد في الناتو: انعطافة نحو الغرب أم استثمار للفرص؟
بقلم: د. سنية الحسيني

النشرة الدولية –

في خضم تطورات موافقة تركيا على انضمام السويد لحلف الناتو، يسود انطباع عام باعتبار ذلك انعطافة تركية نحو الغرب، الا أن ذلك قد يكون غير صحيح، في ظل عدم الاعتقاد بتوجه تركيا للتخلي عن حليفها الروسي، ووجود فرصة لها لاستثمار الحاجة الغربية الأميركية لمكانتها وعلاقتها بروسيا، خلال حرب الاستنزاف الدائرة للموارد الغربية، في سبيل تحسين أوضاعها الاقتصادية وتلبية لأهداف عسكرية وسياسية. ولا تخفي الولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى في حلف الناتو رغبتها بانضمام السويد لعضويتها، وخصوصاً في ظل تطورات حربها مع روسيا، والذي يرتبط قبولها بشكل مباشر بموافقة تركيا على هذا الانضمام، الذي علقته تركيا طوال العام الماضي. ويشير تتبع الأحداث وتصريحات المسؤوليين خلال الأيام القليلة الماضية بأن صفقة أبرمت بين تركيا والولايات المتحدة، تضمن قبول السويد في عضوية الناتو، وحصول تركيا على مكاسب استراتيجية.

التقى أردوغان وبايدن على هامش قمة الناتو في ليتوانيا قبل يومين، في ظل بوادر صفقة دشنت بين الرجلين، تظهر ملامحها من تصريحات مسؤولي البلدين وتطور الأحداث. وأعلن ينس ستولتنبرغ، الأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، يوم الاثنين الماضي، عشية قمة الناتو في فيلنيوس، في أعقاب جولة مفاوضات خاطفة جمعته بأردوغان ورئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون، أن الرئيس التركي وافق على قبول انضمام السويد إلى الحلف لتصبح فيه العضو الثاني والثلاثين، ولم يخف الرئيس الأميركي في أعقاب ذلك رغبته ودعم بلاده لانضمام السويد للحلف. جاء ذلك في ظل تطور مهم آخر حدث يوم الجمعة الماضي خلال زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لتركيا، تلبية لدعوة أنقرة، في أول زيارة رسمية للرجل للبلاد منذ اندلاع الحرب، أكد خلالها أردوغان استحقاق أوكرانيا للعضوية في حلف الناتو، وقام بتسليم خمس قادة أوكرانيين للرئيس الأوكراني، كانت تحتجزهم أنقرة وفق صفقة تسليم أسرى بين روسيا وأوكرانيا، أبرمت العام الماضي بوساطتها، وتعهدت بموجبها تركيا، بالتحفظ عليهم عندها لحين انتهاء القتال. ورغم موافقة أردوغان على إرسال بروتوكول انضمام السويد للناتو إلى البرلمان التركي للتصديق عليه، والذي يمتلك تحالف أردوغان فيه للأغلبية،الأمر الذي يمنح أردوغان مزيداً من الوقت للمراوغة، لضمان اتمام تلك الصفقة وفق شروط أنقرة، الا أن أجواء الراحة التي سادت في فيلنيوس تلمح لارتفاع فرص اكتمال الصفقة.

وتعود أهمية انضمام السويد بشكل خاص للناتو في ظل الحرب الدائرة، لدورها في تأمين الأمن الدفاعي الشمالي الشرقي للقارة الأوروبية ومنطقة بحر البلطيق. فرغم انضمام فنلندا قبل أشهر للحلف، الا أن ترابط موقع البلدين يعزز تلك المنظومة الدفاعية لدول الجناح الشرقي للحلف، ويدعم أمن شمال وسط أوروبا، ويجعل بحر البلطيق بحيرة للناتو. وعكست تصريحات الرئيس الفنلندي سولي نينيستو أهمية انضمام السويد للحلف بقوله: “إن عضوية فنلندا في الناتو ليست كاملة بدون السويد”. تقدمت السويد وفنلندا بطلب للانضمام إلى الناتو في العام ٢٠٢٢، بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ولا تمانع تركيا عموماً في توسع عضوية الناتو، ودعمت عضوية فنلندا، ومن قبلها جورجيا، الا أنها اشترطت للقبول بعضوية السويد، تلبيتها لشروط تتعلق بسياساتها التي تدعم منتميين لحزب العمل الكردستاني وجماعة فتح الله غولن فوق أرضها. لم تقبل عضوية السويد في الناتو، بسبب رفض كل من تركيا والمجر، رغم تصديق أعضاء الحلف الـ ٢٩ الأخرى على ذلك. وتمتلك تركيا ورقة الفيتو برفض عضوية أي مرشح جديد، مثلها مثل أي عضو آخر في الحلف. وتبقى المجر العضو الوحيد المتبقى في حلف الناتو الذي لم يوافق بعد على طلب انضمام السويد اليه، بعد موافقة تركيا، الا أن مسؤولين مجريين أكدوا إنهم سيقتادون بسلوك تركيا ولن يعرقلوا عملية انضمام السويد، مما يزيد من أهمية موافقة تركيا على هذا الانضمام.

رغم تلبية السويد مطالب أو شروط تركيا، التي تضمن تخلي الثانية عن فيتو قبول عضوية الأولى في الناتو، فعدلت السويد دستورها، ومررت تشريعات جديدة لمكافحة الإرهاب، وشددت العقوبة على الذين يحرضون عليه، ووافقت على تسليم العديد من الأتراك المتهمين بارتكاب جرائم في تركيا، الا أن تركيا عشية قمة الأطلسي قبل أيام وضعت صراحة شروط جديدة لاتمام الصفقة. ورغم عدم الإفصاح صراحة عن تفاصيل هذه الصفقة، الا أن تصريحات القادة الغربيين والأميركيين التي جاءت رداً على الشروط التي وضعتها تركيا في تصريحات مسؤوليها، وموافقة تركيا بعد ذلك على انضمام السويد للناتو، يشير إلى تطورات إيجابية تتعلق بمجرى الأحداث. فبعد يوم واحد من إعطاء أنقرة الضوء الأخضر للسويد للانضمام للناتو، أكدت واشنطن توجهها لإرسال طائرات مقاتلة من طراز إف ١٦ إلى تركيا، بالإضافة الى الموافقة على ضم تركيا إلى مجموعة تطوير هذا النوع من الطائرات. وكانت تركيا قد حرمت بشكل منفرد من بين أعضاء الناتو الأخرى، الانضمام لمجموعة تطوير طائرات اف ٣٥، في العام ٢٠١٥، الأمر الذي اضطرها للجوء إلى روسيا. ورغم حاجة واشنطن للتشاور مع الكونجرس، رغم اعتراض قيادات مهمة داخلة على ذلك، لاقرار هذه التطورات الاستراتيجية المهمة في سياسة الولايات المتحدة، الا أن تركيا أيضاً بحاجة لتصديق البرلمان على قبول عضوية السويد في الناتو.

وأعلن المتحدث باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر دعم بلاده لتطلعات تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتواصل دعمها لذلك، رغم عدم استحسانها ربط ذلك بقضية انضمام السويد للناتو. ووعدت السويد بدعم الجهود لإحياء عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، كما وافق مسؤولو الاتحاد الأوروبي على تسريع مفاوضات عضوية أنقرة في التكتل الأوروبي. وتوجهت تركيا للانضمام للتكتل الأوروبي منذ أكثر من ٥٠ عاماً دون طائل، فقدّمت ملف ترشّحها إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، في العام ١٩٨٧، ونالت وضع دولة مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي في العام ١٩٩٩، وأطلقت رسمياً مفاوضات العضوية مع الكتلة الغربية في العام ٢٠٠٥، وتوقفت المفاوضات في العام ٢٠١٦،على خلفية انتقاد حملة الحكومة التركية لمحاسبة المتورطين في الانقلاب العسكري الفاشل. وتتطلع تركيا إلى تحسين أوضاعها الاقتصادية، في ظل استمرار تراجعها، والاستفادة من الدعم الغربي الاقتصادي، وتحسين فرصها للمساهمة في المشاريع الغربية المخطط لها لأعادة إعمار أوكرانيا.

لم تعد العلاقة بين تركيا وروسيا علاقة عابرة أو مؤقته، بل باتت علاقة استراتيجية، حتمتها الظروف، رغم تاريخ التنافس بين هذين البلدين في الماضي. ولعل أهم الظروف التي رسمت حدود هذه العلاقة الاستراتيجية بين البلدين هو موقف وسياسات الولايات المتحدة وتوابعها من الدول الغربية تجاه تركيا، خصوصاً بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في البلاد، فاعتبرت الولايات المتحدة والغرب تركيا منافساً ولم تتعامل معها معاملة الحلفاء، رغم عضويتها في الناتو، وامتلاكها لثاني أكبر جيوشها فيها بعد الولايات المتحدة. فلم يخف الغرب بقيادة الولايات المتحدة رغبته في هزيمة أردوغان وتحالفه في الانتخابات الأخيرة. تطورت علاقة استراتيجية بين تركيا وروسيا خلال السنوات الأخيرة، فناهيك عن العلاقات الاقتصادية بين البلدين، باتت روسيا أحد أهم شركائها الاستراتيجيين في المجال العسكري النووي وكمصدر للطاقة. كما حافظت تركيا على مكانة خاصة جداً لها لدى العالم الغربي، كوسيط بينه وبين روسيا، في ظل علاقتها مع الطرفين. فعلى سبيل المثال، توصلت تركيا العام الماضي لابرام اتفاق مع روسيا يسمح بتصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، والذي رفع الحصار الروسي عن الموانئ الأوكرانية. وتهدد موسكو بالانسحاب من الاتفاق في السابع عشر من الشهر الجاري، بحجة عدم الوفاء بمطالبها، بينما يؤكد أردوغان مساعيه للضغط على روسيا لتمديد الاتفاق، في ظل تطلع زيلينسكي لتمديد الاتفاق الذي يوفر لبلاده الكثير من المال.

رغم التصريحات الروسية التي استهجنت تسليم تركيا لخمسة أسرى أكرانيين للرئيس الأوكراني خلال زيارته لأنقرة قبل أيام، في مخالفة لإتفاق تركيا معها، الا أن موسكو أجلت سداد ما يصل إلى أربعة مليارات دولار من فاتورة استيراد الغاز خلال الانتخابات التركية الأخيرة، لتعزيز فرص أردوغان وحزبه للبقاء في السلطة. فالعلاقة الاستراتيجية بين البلدين هي الأصل، بينما تلك السياسات الثانوية التي تسلكها تركيا تجاه روسيا والغرب، والتي تبدو متناقضة، تعد ضرورية في سياستها كوسيط، يقف على مسافة واحدة بين المتصارعين، ويحقق لها مكاسب استراتيجية من الطرفين. فيرى أردوغان أن لكييف الحق بالانضمام للناتو، التي جاءت الحرب مع روسيا كخطوة استباقية لمنعها. ويستنكر الرئيس التركي الغزو الروسي لأوكرانيا، ويتعاون معها في تطوير الطائرات المسيرة، بينما لا تلتزم تركيا بتطبيق الحظر على روسيا، وتشكل قناة اقتصادية حيوية لها، وتؤمن احتياجاتها الحيوية من قطع الغيار خصوصا الالكترونية، وتسمح بتواجد السفن الروسية في موانئها.

بعد تخطي الحرب يومها الـ ٥٠٠، وتحمل الدول الغربية تكلفتها المادية، وعدم وجود إشارات تنبؤ بإمكانية انتهائها قريباً، يبدو الإقرار بأهمية تركيا “الجيو إستراتيجية” لحلف الناتو وللأمن الأوروبي ضرورة، خصوصاً من خلال دورها كوسيط بين موسكو والغرب، الأمر الذي يستشرف فرص القبول بشروط تركيا وتطلعاتها.

 

زر الذهاب إلى الأعلى