زكي ناصيف، عاشق الوردة

النشرة الدولية –

مجلة برس بارتو –

زياد سامي عيتاني

تحل اليوم ذكرى ولادة عبقري من عباقرة الموسيقى اللبنانية “الزاهد” زكي ناصيف، الذي يشارك الطبيعة أشواقه وأحلامه، محدثاً الشجر والسنابل والورود والفراشات والجبال والسهول والوديان، موظفاً إياها موسيقياً في المقامات والإيقاعات الحنية للريف والقرى، وتغنيها المدن…

لبنانه؛ واقعي، بسيط، رشيق، متواضع، لا هو وطن مقدس، ولا هو مبهم لم يولد بعد، ولا أسطورة من نسج خيال مستحيل(!) لبنانه؛ هو بالضبط، تلك الطبيعة الساحرة، التي كانت دوماً بالنسبة له مثيرة لخياله الإبداعي الحالم.

  • التأثر بالطبيعة وببيئته:

زكي ناصيف المولود في ٤ تموز ١٩١٦ في “مشغرة”، تأثر بطبيعتها الخلابة بالكرمى والحور والصفصاف والسهل والحقول المترامية والأنهر والبحيرات، تخزنت في ذاكرته الطرية الترانيم السريانية والبيزنطية، كما كان لأهازيج و”الشروقيات” التي كانت ترددها بصوتها الصافي والحزين وقعها على مسمعه، كذلك أغرم منذ صغره بالموسيقى والشعر الشعبي من العاتابا والزجل والميجانا وأبو الزلف، والدبكة اللبنانية.

كما كان “الفونوغراف” الذي أتى به والده، وهو الأول في المنطقة، في سن صغير، إضافة إلى أسطوانات سلامة حجازي، وسيد درويش، ويوسف المنلاوي، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وغيرها التي كان يحضرها من سفراته المتكررة، فعل السحر في تنشئته الموسيقية، فكونت عنده إتجاهاً مبكراً للإنفتاح على موسيقى تتجاوز النطاق الموسيقي المحلي الضيق (القرية) الفولكلوري.

كل هذه العوامل كانت ذات تأثير عميق في تكوين مشروع ولادة فنان سيكون له بال طويل في تطوير وإغناء الموسيقى والأغنية اللبنانية، حيث نشأ على سماع الجمل الموسيقية القصيرة، المصاحبة لكلمات بسيطة وشعبية وعفوية، التي جعلها في وقت لاحق أساساً لآفتتاحه مدرسة جديدة في الموسيقى والأغنية اللبنانية، نافخاً فيها روح التراث والفولكلور بإيقاع رومنسي بريئ، يشبه رومنسيته البريئة، دون إفتعال ولا إنفعال مبالغ فيهما.

  • إدخال “الكورس” على الأغنية اللبنانية:

عندما تفرّغ للعمل في “إذاعة الشرق الأدنى” (قبل أن ترثها الإذاعة اللبنانية) عام ١٩٥٣، ممتهناً الإحتراف الموسيقي، صار يمدّها بالألحان والمقطوعات والأغاني، متخذاً خطاً موسيقياً جديداً، تميَّز وتألّق به، حيث أدخل “الكورس” للمرّة الأولى في الأغنية اللبنانية، بعدما كان الغناء مقتصراً على الأداء الفردي حيث لم يجازف أحد من قبل في تأليف أغنيات للكورَس .

كما أدخل تحديثاً على التراث الغنائي الشعبي، من خلال إعتماد الجملة الموسيقية القصيرة، مقرونة بأبيات شعرية في غاية البساطة والإحساس، بعيداً عن المطولات والإسترسال والتكرار، مترجماً بأحاسيه وذوقه المرهف، بواسطة آلة “البيانو” الذي ربما وجد فيها ضالته، رغم أنه كان بارعاً في العزف على آلتي “العود” و”الفيولنسيل”، إذا تمكن من خلال “البيانو” التعبير عن أحاسيسه وإنفعالاته الرومنسية، الممزوجة في بعض الأحيان بما ورثه من قريته من العنفوان.

***

  • ”أبو الفولكلور” و”شيخ الموسيقى“:

زكي ناصيف كان صاحب أسلوب ومدرسة تلحينية، لا بل صاحب مشروع موسيقي متكامل، كان متأثراً ومؤثراً، تمكن من أن يجعل من الموروث الشعبي مُنطلقاً للتحديث الذي يرتكز على الأصالة والمحافظة عليها بأمانة، وليس على الإطاحة بها، تحت ذرائع الحداثة واللحاق بمواكب العصر، إنما إستلهم من تقنيات وأساليب وآلات الغرب ما تحتاجه الموسيقة الشرقية مع المحافظة على هويتها، للإنطلاق إلى الفضاء الأرحب من خاصيتها الجغرافية الضيقة، من توليفة موسيقية صاغها من صميم مكوّناته الذاتيّة والاجتماعية والثقافية والوطنيّة.

أضاف زكي ناصيف إلى الفولكلور مضامين تتجاوز ما إستقرّ في الذاكرة الشعبيّة من ألحان، حتى بدا في أعماله مبتكراً وجديداً عبر ما أضفى عليها من خياله التلحيني،

لدرجة أنه تمكن بما يشبه المستحيل أن يجمع آلة “المجوز” الفلكلورية العريقة مع آلة “البيانو” الكلاسيكية، ليخرج بلحن جميل ومنسجم، مضيفاً هذا التآلف المتناغم ما بين الشرق والغرب موسيقاً.

****

  • شاعر الكلمة والنغمة:

الكلمة بالنسبة لزكي ناصيف هي النغمة، والعبارة الشعرية شديدة الإلتحام بالجملة اللحنية.

لذا، آثر أن يكتب غالبيّة أعماله في المرحلة التي تلت البدايات، معتمداً على الأوزان الرشيقة السهلة.

بالرغم من أنه واسع الثقافة، فإن تواضعه جعل منه شاعراً رقيق الحاشية ومرهف الأحاسيس، يحرص على إختيار كلمات أغانيه من القاموس الشعبي، وكأنها حصاد من سهل البقاع، فتحمل في طياتها صفاته وميزاته في البساطة والمتواضع والود، والخجل، والإنسانية، وصولاً إلى الوطنية الصافية والصادقة.

****

عاش المبدع زكي ناصيف حياته ببساطة، متوارياً عن الأضواء والضجيج، مستمدّاً من شعاع الخجل جلاء الطريق، بينصرف إلى التلحين والشعر والغناء، ومحاولة إعادة تجميع المهمل من التراث وصياغته مجدداً بلمساته التجديدية المحافظة.

فليس من المبالغة تصنيف هذا الفنان الكبير، الشديد التواضع، الانساني في مواقفه ومشاعره، أحد ركائز التجديد في الموسيقى والغناء والتلحين، ورائد من رواد نهضتها.

زر الذهاب إلى الأعلى