سذاجة أم استهبال؟
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

قبل 3 سنوات ونيّف، كتب وزير الخارجية الأمريكية الحالي أنتوني بلينكن مقالًا مشتركًا في صحيفة ”واشنطن بوست“، وصف فيه شعار“ أمريكا أولًا“ بأنه لا يفعل أكثر من أنه يزيد في سوء أحوال العالم“.

كان المقال في حينه (1 يناير 2019) جزءًا روتينيًا من فائض البرنامج الدعائي للحزب الديمقراطي يستهدف إدامة تشويه صورة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، صاحب الشعار.

استذكار هذه القناعة لبلينكن، اليوم، وهو في الشرق الأوسط يرافق رئيسه جو بايدن في رحلة عنوانها إعادة شدْشدة المنطقة تحت قيادة أمريكا، يمكن أن يكون استعادةً بداعي تقييم المستجدات التي جعلت الرجل يُغيّر رأيه.

فهو بعد أن خدم سنتين نائبًا لوزير الخارجية في عهد أوباما، ثم نائبًا لمستشار الأمن القومي لمدة عامين، انتهى إلى أن جزءًا من مصائب العالم سببه قيادة واشنطن له من موقع أنها أولًا.

لكن عندما ارتقى إلى منصب وزير الخارجية، عاد ليقود دبلوماسية بلاده في توزيع العالم (ومنه الشرق الأوسط) إلى شبكة من الاتفاقات والترتيبات التعاقدية التي تصنع واحدة من أكبر استعراضات القوة في فترة ما بعد الحرب الباردة، استباقًا لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يبدو في نهاية نفق حرب أوكرانيا.

دَعْكَ من التفاصيل الإجرائية الصغيرة، بما فيها المجاملات التي جعلت من رحلة الرئيس بايدن إلى الشرق الأوسط مهرجانًا متعدد الألوان؛ فالزيارة في الأساس جزءٌ من برنامج جديد للدولة العميقة في الولايات المتحدة بدأ تنفيذه في الربع الأخير من العام الماضي عندما تأكد أن الغزو الروسي لأوكرانيا مسألة وقت، وأن الحرب هناك هي قدحة الاشتعال والتسخين لنظام عالمي جديد، بعض تجلياته في الشرق الأوسط باتت مُستحقة في الترتيبات الأمريكية.

قبل حرب أوكرانيا واستعدادًا لها، أنشأ بايدن، في سبتمبر 2021، تشكيلين دفاعيين جديدين في شرق آسيا؛ الأول ”أوكوس“ مع أستراليا وبريطانيا، والثاني ”كواد“ مع اليابان والهند وأستراليا.

كان واضحًا أن المنظومتين العسكريتين رسالة أمريكية مزدوجة، واحدة لتطويق الصين كخصم منظور، والثانية لاحتواء الأصدقاء، وهم الحلفاء النظريون الذين أحيانًا تكون الخلافات فيما بينهم عديدة وعميقة تستوجب إعادة الاصطفاف، كما هو الحال مع حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط.

وقبل زيارته الراهنة للمنطقة مسبوقًا بالتشييع عن حلف إقليمي جديد، كان بايدن أعاد إنعاش علاقات التحالف في آسيا وأوروبا بزيارة لكوريا الجنوبية واليابان، وعقد قمة الأمريكيتين، مع مؤتمر قمة لمجموعة السبع ولحلف شمال الأطلسي.

وهي تستعرض موقع الشرق الأوسط في هذا الاستعجال الأمريكي لإعادة ترتيب رقعة الشطرنج الدولية، استباقًا للنظام العالمي الجديد، كشفت صحيفة ”نيويورك تايمز“ عن السر الطريف الذي استدعى تأجيل زيارة بايدن لمدة أسبوعين.

كان مطروحًا أن تتم الزيارة، في نهايات الشهر الماضي، لكنها تأجلت حتى أواسط الشهر الحالي. قيل في حينه إن التأجيل فرضته ظروف الحكومة الإسرائيلية الآيلة للسقوط، لكن تكشّف لاحقًا أن مستشاري بايدن فطنوا إلى أن صحة الرجل البالغ من العمر 79 عامًا لا تحتمل أن يبقى مشغولًا باستنفار لمدة 10 أيام، هي الفترة التي كانت مقررة لرحلته الأوروبية الموصولة بجولته في الشرق الأوسط.

خشي مساعدوه أن يكشف إرهاق المراسم عن عورات محرجة في صحة الرئيس أو في قدرته على التركيز، وطلبوا تأجيلها أسبوعين؛ فهي جولة حاشدة تشمل لقاءات وجاهية في جدة، وأخرى زوم في إسرائيل، مع حوالي 12 زعيمًا.

بعضُ تفاصيلها ضاعت في التغطيات الصحفية المبتسرة، أو في الاجتهادات عن حلف إقليمي جديد يُراد استحداثه لإدماج اسرائيل في المنطقة، وهي اجتهادات وصفها بايدن نفسه بأنها ارتعادات جديدة ”New Vipes“ لمنطقة تبحث عن اليقين والثقة.

بعد يومين عندما يغادر الرئيس الأمريكي الشرق الأوسط، ستظل عالقة في الذاكرة الإعلامية 4 ملاحظات من حيثيات الجولة، بعضها تداعيات طويلة الأمد:

سيُقال لمَن يسأل، إن مقال الرأي الذي نُشر في صحيفة ”واشنطن بوست“ يوم التاسع من الشهر الحالي، بتوقيع الرئيس جو بايدن عن أسباب زيارته للمملكة العربية السعودية، لم يكن من إعداد كاتب خطاباته ”فيناي ريدي“، بل كان شُغلًا مؤسسيًا محكمًا شاركت فيه دائرة الأمن القومي ووحدة الاتصالات في البيت الأبيض، وجعلت المقال، في معظمه، نصوصًا حرفية من بيان ”مسؤول كبير“ حجبوا اسمه، كان ألقاه قبل ذلك بأسبوع تقريبًا.

ملاحظة ثانية شيّقة، وهي أن القمة الافتراضية التي تنعقد في إسرائيل نحتوا لها اسم I2U2، اختصارًا للقول إن هذا التحالف يضم دولتين تبدأ أسماؤهما بحرف I (إسرائيل والهند)، ودولتين تبدأ أسماؤهما بحرف U وهما الإمارات العربية المتحدة، والولايات المتحدة. أما قمة جدة، فقد نحتوا لها اسم GCC+3 إشارة إلى أنها تضم دول مجلس التعاون مضافة لها 3 دول (مصر، والأردن، والعراق).

ملاحظة ثالثة وهي أن إسرائيل في طريقة تعاطيها الصارم مع الملف النووي الإيراني، استطاعت أن تؤجل أو تلغي فكرة إقامة حلف جديد في الشرق الأوسط، مبررها في ذلك أن مثل هذا الحلف بقيادة الولايات المتحدة سيكبل يديها في مواجهة طهران، ويمنعها من استخدام القوة العسكرية، إذا اقتضى الأمر.

 

كل ما تريده واشنطن في هذه المرحلة هو شرق أوسط هادئ يعتمد الدبلوماسية في الحوارات المستعصية، ويُعاد فيه فرز واصطفاف الأصدقاء قبل الأخصام والأعداء.

لا تريد واشنطن أن تنجر إلى حرب في هذه المنطقة، لأن لها في مناطق أخرى من العالم اهتمامات أخرى لها الأولوية.

هل هناك ما هو أكثر سذاجة أو استهبالًا من هذا الطرح الذي يريد إقناع أهل المنطقة بأن احتواء إيران التي دخلت العتبة النووية يمكن أن يتم بالدبلوماسية؟ وأن لجم تدخلاتها المسلحة في المنطقة يمكن أن يتحقق بالحوار؟

ملاحظة رابعة، وهي أن بايدن المهموم بتراجع صورته، وبهواجس خسارة حزبه في الانتخابات النصفية القريبة، أوعز لمستشاريه بتظهير صورته على أنه وفيٌّ بالفطرة لإسرائيل، وأنه يستهدف في جولته الراهنة دمجها فعليًا في الشرق الأوسط.. سمح لبيان رسمي أن يشير إلى أنه (بايدن) لم يمل يومًا من الترديد بأنه عندما كان صبيًا سمع والده يقول إنه ”لو لم تكن إسرائيل موجودة، ستحتاج الولايات المتحدة إلى اختراعها“..

هو تعبير مداهنة انتخابي لا وزن مؤثرًا له، يصوّر جولة بايدن في الشرق الأوسط على أنها ”أعادت إنتاج إسرائيل“.

زر الذهاب إلى الأعلى