الرحباني: الثقافة وجه لبنان الحضاري ولغة الحياة التي نخاطب بها العالم

النشرة الدولية –

مجلة اليمامة – تحقيق – د. ماجدة داغر –

المسرح في ظلمة حالكة، وضوء صغير موجّه على مغنية تقف في الوسط. إنها فيروز، التي تبدو كأنّها معلّقة في الهواء. بدأت تغني “لبنان يا أخضر حلو”، وكانت فقرة الأخوين رحباني وفيروز هي الأنجح في أول موسم من مهرجانات بعلبك العام 1955.

هكذا بدأ أول مهرجان فني في لبنان والمنطقة العربية، حين قرر الرئيس الراحل كميل شمعون أن يطلق مهرجانًا فنيًا تشرف عليه لجنة من النخبة البرجوازية الفرنكوفونية في لبنان وتكون زوجته زلفا عضوًا فيها، ويكون في القلعة الأثرية الأشهر والأعظم “بعلبك”. وكان لبنان آنذاك يشهد نهضة عمرانية وثقافية مؤاتية للأفكار الخلاقة التي أطلقها الرئيس شمعون.

بدأ المهرجان في سنواته الأولى باستضافة أشهر الفنانين العالميين وأهمهم، مثل إللا فيتزجيرالد مغنية الجاز الأميركي، وفريق برلين فيلهارمونك بقيادة هربرت فون كرايان، وفريق باليه من بريطانيا وغيرهم من الأسماء والنجوم الكبار في العالم، وتقدم فيه الموسيقى الكلاسيكية والرقص والمسرح والأوبرا والجاز، إلى أن أصبح المهرجان الأشهر والأعرق في المنطقة قبل أن تتوقف أنشطته خلال الحرب اللبنانية (1975-1990) لربع قرن، ثم يطل مجددًا ليقدم أبرز الأعمال الفنية في العام 1997، ويستعيد بعضًا من أمجاده مع أكثر من 40 ألف متفرج سنويًا يحضرون العروض في محيط مدينة بعلبك التاريخي الساحر.

بعض التجارب الأليمة تعود للأسف عبر التاريخ لتجدد نفسها، فشاءت الظروف مؤخرًا أن تتوقف مهرجانات بعلبك، كما كل المهرجانات في لبنان، بسبب الأزمات المتتالية التي حلّت بلبنان بدءًا بجائحة كورونا مرورًا بتفجير مرفأ بيروت وصولًا إلى الانهيار الاقتصادي.

بعد ثلاث سنوات تعود المهرجانات بحفلات فنية ويعود الجمهور “إلى أدراج معبد باخوس”، بعدما أقيمت في السنتين الماضيتين نسختان افتراضيتان للمهرجان استقطبتا أكثر من 17 مليون مشاهَدَة بحسب أرقام المنظمين.

سيتضمن الحدث أربع حفلات ويمتد من 8 تموز/يوليو إلى 17 منه، في رسالة تمثّل “تحدياً وشكلاً من أشكال المقاومة الثقافيّة، وضرورة عدم تخلّي لبنان عن دوره كركن فني وثقافي” بحسب ما أعلنت رئيسة المهرجان السيدة نايلة دو فريج. أما الحفلات فتبدأ في 8 تموز يوليو تحية “للموسيقى والأغنيات اللبنانية التراثيّة”مع المغنية اللبنانية سميّة بعلبكي، وقائد الأوركسترا المايسترو لبنان بعلبكي. في 10 من الشهر نفسه فرقة أدونيس مع موسيقى البوب- روك .وفي يوم 11 أمسية فلامنكو وجاز مع عازف الغيتار والمؤلف الإسباني خوسيه كيفيدو بوليتا في حفلة عنوانها “كواتيكو تريو”، يرافقه فيها غناءً رافاييل دياوتريرا وعلى الإيقاع كارلوس مورينو. وختام المهرجان في يوم 17 حفلة بتوقيع عازف البيانو اللبناني – الفرنسي سيمون غريشي، صممت خصيصاً للمهرجان، وترافق غريشي الراقصة الإيرانية رنا غرغاني والمؤلف الموسيقي الإيطالي جاكوبو بابوني شيلينجي.

بين الأمس واليوم، ماذا تغير؟ وهل عودة المهرجانات اللبنانية هي نفسها كما كانت في السابق، بعدما وصل عدد المهرجانات اللبنانية إلى أكثر من 80 في معظم البلدات والقرى اللبنانية؟ وكيف يمكن أن تعود لتشكّل رافعة اقتصادية سياحية إنمائية جاذبة؟ يجيب المؤلف الموسيقي اللبناني أسامة الرحباني في حديث خاص لمجلة “اليمامة”.

يرى أسامة الرحباني أن المهرجانات اللبنانية، هي علامة فنية فارقة في المنطقة وبداية فكرة المهرجانات، لا سيّما في انطلاقتها في الخمسينات من القرن الماضي حين أسّس الرئيس كميل شمعون مهرجانات بعلبك الدولية في العام 1955، وكانت تضمّ نخبة نوعية في مجلس إدارتها، وهؤلاء كانوا يغطون تكاليف الخسائر من مالهم الخاص.”وقتها كان المهرجان لا يبغي الربح، وهو قائم على الأفكار العظيمة المدعومة، في زمن البحبوحة والاستقرار الاقتصادي والازدهار. وبعد عودة المهرجان الذي توقف على إثر حرب 1958، كانت سنوات الذروة بين 1958 و1974”. وعن زمن الأخوين رحباني وفيروز وارتباطهم بمهرجانات بعلبك، يقول الرحباني: “مهرجان بعلبك احتضن الفنانين اللبنانيين، فكان البيئة الحاضنة التي دعمت الفنان. وتبقى علاقة الأخوين وفيروز مميزة مع هذا الإطار الفني الذي يضم قلعة بعلبك وهي من الآثار الأعظم في العالم، خصوصاً بعد ارتباط الأخوين وفيروز بفكرة لبنان “الوطن”، وتحليقهم عالياً بفضاء الفن والموسيقى”.

يختلف الزمن بشكل كبير بين الأمس واليوم، إذا قمنا بمقارنة بسيطة بين مهرجانات الماضي والحاضر. كيف يرى أسامة الرحباني مهرجانات الأمس القريب، أي قبل سنوات قليلة قبل أن تتوقف الحركة الفنية إثر الانهيار الاقتصادي وتفجير مرفأ بيروت وجائحة كورونا وكل ما حلّ بلبنان في الآونة الأخيرة؟

“كثرة المهرجانات التي تدفقت بشكل كبير ما بعد العام 2005 لها وجهان السلبي والإيجابي”. يجيب الرحباني “فهي مفيدة ومثمرة وضرورية للحركة الفنية والثقافية والاقتصادية والسياحية، ولها جانب سلبي من ناحية الفوضىى وعدم التنظيم والأمور التي ترتبط بكثرتها. لكن المهرجانات الفنية هي وجه لبنان الحضاري وما تستقطبه من فنانين كبار وتحريك للعجلتين الاقتصادية والسياحية. ففي السنوات الأخيرة قبل أن يتوقف كل شيء بفعل الأزمات، كانت المهرجانات تعم المناطق اللبنانية في معظمها، فبالإضافة إلى المهرجانات الكبرى، أي بعلبك وبيت الدين وبيبلوس وبعدها الأرز وإهدن، انتشرت في جميع بلدات لبنان وقراها”.

من الطبيعي أن يحدث تراجع في المستوى الفني من ناحية الأسماء الفنية الكبيرة، يجيب الرحباني، كما التراجع في الأفكار والإنتاج. “كانت مهرجانات بيبلوس هي الأضخم إنتاجياً، فأهم المسرحيات خصصت لبيبلوس، مثل عودة الفينيق، زنوبيا، صيف 840، ودون كيشوت وغيرها. وكانت تمثل حركة فنية ضخمة وتباع آلاف البطاقات، وخصوصاً في مدينة أثرية تاريخية عمرها أكثر من 8000 سنة. وكان ذلك كان بوجود المنتج الكبير أنطوان شويري”.

حفلة “ليلة أمل” التي أقيمت في “الفوروم دو بيروت” والتي ضمت الرحباني وإلى جانبه الفنانة هبة طوجي، “كانت إرادة الأمل، يقول أسامة الرحباني. كانت حفلة ضخمة جداً حشدت الآلاف لحضورها، وأردنا أن تكون مجانية للجميع، لأنها تمثل صورة لبنان التي نحاكي من خلالها العالم أجمع بلغة لبنان الحقيقية وهي لغة الحياة، لا سيما أنها كانت الحدث الموسيقي الأول الذي يحتضنه هذا المكان بعد تدميره جراء انفجار مرفأ بيروت. وكان هذا الحدث رسالة للعالم أننا نستطيع الصمود إنسانيًا وثقافيًا وفنيًا حتى لو كان الناس الأغنياء لا يأبهون للثقافة في لبنان، كما قلت في افتتاحية الحفلة، يختم الرحباني”.

زر الذهاب إلى الأعلى