“عشاق الدنيا” كوميديا موسيقية تحيي تراث فن المزود التونسي

عالم الموسيقى يعبّر عن أحلام التونسيين وحنينهم إلى الماضي

النشرة الدولية –

العرب – حنان مبروك –

“لولا الحنين إلى جنة غابرة لما كان شعر ولا ذاكرة”، ولولا الحنين إلى الماضي الجميل، لما اندفع المخرج التونسي عبدالحميد بوشناق إلى إعادة البريق لموسيقى المزود والنبش في ذكريات التسعينات، ليخرج منها كل أوجه الجمال والحب التي ميزت تلك الحقبة الزمنية، ويجعل منها اليوم مادة فنية تختلف في تعاطيها مع الموروث الموسيقي والهوية الثقافية، فهو لا “يهذّب” التراث وإنما يضعنا أمامه وجها لوجه لنعرف بعضا من ملامحه.

من فن المزود، ذلك الفن المحلي الأصيل الذي يحرك حنين التونسيين إلى سنوات التسعينات من القرن الماضي، التي شهدت أوج شهرة وانتشار هذا النمط الغنائي والموسيقي، من ذلك الفن الذي يحيي به التونسيون أفراحهم ومسراتهم، رغم كلماته المؤلمة وأشعاره الباكية على الحبيبة والأم والوطن، أوجد الممثل والمخرج التونسي عبدالحميد بوشناق فكرة مسلسله “النوبة” الذي عرض على موسمين عامي 2019 و2020، فحظي بإشادات ومشاهدات كبيرة، جعله يغامر بعد عامين ليقدم كوميديا موسيقية، تحمل قصص المسلسل وتفاصيل حقبة زمنية يحن إليها الشباب إلى خشبة المسرح.

“رجعنا نتنفس فنّا”، هذا هو شعار الدورة السادسة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي، الذي اختار المشرفون عليه هذا العام أن يعيدوا الجمهور التونسي خلال عرض الافتتاح والعرض الموالي له، إلى ثلاثين عاما مضت، فيتنفسوا فن المزود والنوبة، الذي يحمل في طياته حكايات الماضي الجميل، فكل من يسمعه ويحبه يلمس فيه أسرار العشاق وقصص الحب المؤلمة، ومغامرات الآباء والأجداد.

“عشاق الدنيا”، كوميديا موسيقية للمخرج التونسي عبدالحميد بوشناق، وشارك في التمثيل ريم الرياحي وحمزة بوشناق وبحري الرحالي وعزيز الجبالي ومهذب الرميلي والشاذلي العرفاوي وأميرة شلبي وبلال البريكي، وآخرون ممن شاركوا في مسلسل “النوبة”.

سينوغرافيا محكمة

قادمون من زمن جميل
قادمون من زمن جميل

كان العرض بإشراف المايسترو هشام الخذيري وهو دكتور في آلة المزود، بالإضافة إلى عدد من الفنانين منهم المطرب لطفي بوشناق، والد المخرج، والفنانون الشعبيون صالح الفرزيط والتليلي القفصي وهشام سلام، الذين قدموا باقة من أغانيهم الشعبية. كما شارك مغني الراب كافون والمطرب عبدالوهاب الحناشي كأحد مغني الموسيقى الوترية.

أضواء حمراء وصفراء وخضراء مشدودة إلى عمودين كبيرين، وكراس مصفوفة فوق الخشبة وفي الساحة السفلية للمسرح، ومباخر محاطة بـ”البندير” و”الدربوكة” والطبول بمختلف أحجامها، زرابي تونسية تقليدية مبثوثة هنا وهناك، وبعض المقتنيات المنزلية القديمة، كمذياع وشاشة تلفاز وطاولة وصندوق ملابس خشبي وكنبات زرقاء مزركشة باللون الوردي، وصواني تقديم من النحاس التونسي مرصعة بإبريق الشاي التقليدي، وبعض الديكورات الثابتة الأخرى التي تتخذ من أركان المساحة المخصصة للعرض، يسافر المشاهد في رحلة تأمل للماضي بمقتنياته الفريدة التي صارت اليوم “أنتيكة” تباع وتشترى بأثمان باهظة.

يصدح صوت “العشّاق” مرددا “اللي عاشق النبي يصلي عليه”، ليعلن عن بدء “النوبة”، وبين المشهد والمشهد، يفسح الحوار بين الممثلين المجال لأغاني المزود بعضها يقدمها ممثل شارك في مسلسل النوبة وهو حاضر بشخصيته تلك في العرض المسرحي الموسيقي، وبعضها الآخر يقدمها فنانون من روّاد فن المزود في تونس، ولهم محبون من شمال تونس إلى جنوبها.

وكلما ارتفع صوت المزود، كلما اهتزت أجساد الراقصات، فتتمايلن بملابسهن التقليدية، كأنهن في “نوبة” عرس أو في حفل في حي من أحياء تونس القديمة التي كانت تتفاخر بحفلات المزود وتتنافس في ما بينها.

وحيثما التفت المشاهد وجد عازفين، تارة يعزفون نوتات تحرك أجساد الجمهور وتارة يسترقون فرصة للاستمتاع بالمشاهد المسرحية أو بوصلات موسيقية مختلفة، فالمخرج عبدالحميد بوشناق لم يكتف باقتباس أغاني المزود، وإنما عرج على البعض من الأغاني الوترية التي كانت رائجة في التسعينات، حين كان الصراع بين مطربي المزود والموسيقى الوترية على أوجه، فالمزود كان آنذاك فنا منبوذا، لا يسمعه إلا عامة الشعب والمهمشون والفقراء وخريجو السجون، فيما ينصت أشراف القوم وأعيانه للمالوف والموسيقى الوترية التي تهذّب المزود وتجعله نمطا احتفاليا أرقى.

وبكل هذه التفاصيل، بدا عرض “عشاق الدنيا” ذا سينوغرافيا محكمة، فهو يلتزم بالتيمة العامة للعمل، رغم مصاحبتها بمقاطع فيديو مأخوذة عن أرشيف التلفزة الوطنية، والتي تذكر الجمهور بأعمال درامية وبرامج تلفزيونية عرضت خلال العقد الأخير من الألفية الأولى. وهكذا أيضا بدا الكثيرون من جمهور المسلسل، الذين أصبحوا جمهور عبدالحميد بوشناق وجمهور عرضه الموسيقي والمسرحي، فزينوا الحفل بملابسهم المستوحاة من فترة التسعينات، يدفعهم الحنين إلى التشبث بأي رموز جميلة للماضي، رافضين الحاضر بأغلب توجهاته الفنية والثقافية، وهو ما يحيل إلى ضرورة الاهتمام الاجتماعي والابستيمولوجي بهذه الظاهرة الآخذة في النمو.

محاكاة للواقع

علاقات اجتماعية يحركها فن المزود
علاقات اجتماعية يحركها فن المزود

كان عرض “عشاق الدنيا” أو كما يمكن وصفه “عشاق النوبة” طوال ثلاث ساعات، رحلة عشق في هذا العالم الموسيقي الذي يميّز الموسيقى التونسية عن غيرها، لكنها أيضا رحلة تستعيد أحداث مسلسل النوبة بحذافيرها، فلم تغيّب أي سيرورة درامية أو كوميدية من تلك التي عاشها أبطال المسلسل، الذين جمعتهم قصص الحب والغيرة والحقد والمجون وحتى السجون.

ويحاكي عبدالحميد بوشناق في المسلسل والعرض المسرحي – الموسيقي ما يحدث خلال الحفلات الشعبية من أحداث غير متوقعة، كالخصومات والفوضى والارتجال في أداء الوصلات الغنائية والتنافس بين المطربين، لكن العمل عامة لا يخلو من بحث في الجوانب الاجتماعية والإنسانية لأعضاء الفرق الشعبية من عازفين أو راقصات أو منظمين، ومن اهتمام بمسيرتهم ومعاناتهم وآمالهم وأحلامهم، التي تمثل صورة عن حياة شريحة واسعة من التونسيين في تلك الحقبة الزمنية.

العرض ذو سينوغرافيا محكمة، فهو يلتزم بالتيمة العامة للعمل، رغم مصاحبتها بمقاطع فيديو مأخوذة عن أرشيف التلفزة الوطنية

لكن بسرد أحداث المسلسل برؤية فنية مسرحية، أضاع المخرج قدرته على التحكم في عنصر الزمن، فبدت الساعات الثلاث طويلة جدا، ثقيلة على المتفرج الذي يعود لمواكبة العروض بعد عامين من الحجر والإغلاق الصحي، وكادت تفقد العمل توازنه، فبعض المشاهد المسرحية أخذت مساحة زمنية أكبر من غيرها، فيما حظي كل ممثل بفرصة التعريف بملامح الشخصية التي يؤديها، كما اندفع بعض فناني المزود نحو افتكاك مساحة زمنية أكثر، منتشين بلقاء جمهور يحفظ أغانيهم ويرددها عن ظهر قلب.

وفي رصده “للربوخ” (المزود)، شارك عبدالحميد بوشناق في العرض بصفته أيضا إحدى شخصيات المسلسل والكوميديا الموسيقية، إلى جوار نحو 120 فنانا، بينهم ممثلون وعازفون وراقصون وتقنيون، ومنهم عدد لا بأس به من نجوم المسلسل، يتقدمهم والده الفنان التونسي لطفي بوشناق الذي نجح ابنه في أن يعيده إلى عالم “النوبة” التي كان أحد فنانيها، بعد سنوات من الغياب حيث اتبع مدرسة موسيقية مختلفة.

ومن أغنية شعبية إلى أخرى، يصل العرض إلى حدود “عشاق الدنيا” وهي واحدة من أغنيات العرض، والتي حمل العمل اسمها، ليردد الجميع:

“عشاق الدنيا عقولهم مسلوبة.. والدنيا خضراء مزينة ومطلوبة.. والطبل يدوي والشطيح يدوخ.. والحفلة حمراء والزرد منصوبة.. بعت المخير في خيوط راسي ودخلت معاهم هي نوبة نوبة.. والدنيا عزوزة شائبة وتشيب.. والناس سكارى عيونهم معصوبة.. بين بخورات وبنادر وحضاري”، كلمات تختزل معنى أن تكون تونسيا وأن تنتمي إلى عالم “النوبة” و”المزود”، ومعنى أن تكون فنانا شابا عشق تراث بلاده الفني فاختار أن يبعث فيه الحياة بعد أن أوشكت شمعته على الانطفاء، لشح الإنتاج ولعجزه عن منافسة موسيقى الراب والموسيقى الوترية، فاستطاع بوشناق أن يحرّر “البندير” و”الطبلة” و”الدربوكة” و”المزود” من “سجن الماضي” وأن يدير أعناق الفنانين والجماهير نحو فن عاد بقوة للحفلات والسهرات الليلية، وصار وصلة يومية في بعض قاعات الحفلات بعد أن كان الأغلب منهم ينفرون من سماعه، وتمكن المخرج الشاب أن يحرر أغنية المزود القديمة من ماديتها لترتقي إلى رتبة الرفيق في رحلة الحياة.

Thumbnail

 

زر الذهاب إلى الأعلى