أميركا تعود إلى عالم عربي مختلف
بقلم: طوني فرنسيس
قمة طهران لن تكون عوناً لإيران وروسيا ستنشغل بترتيب علاقات شريكيها
النشرة الدولية –
ستتضح ردود الفعل الإيرانية على قمة ولقاءات جدة العربية – الأميركية خلال الأيام المقبلة، وستكون قمة طهران الثلاثية بين رؤساء روسيا وتركيا وإيران فرصة أساسية لتبيان السلوك الإيراني بعيد مناقشة التطورات الجديدة مع الشريكين الروسي والتركي.
عشية قمة جدة واللقاء الأميركي – السعودي، بلغ التوتر الإيراني ذروته. “حزب الله” أعلن فجأة الحرب على إسرائيل لحظة وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إليها، وحدد مهلة شهرين لنشوب هذه الحرب، رابطاً المهلة شكلاً بالمفاوضات اللبنانية – الإسرائيلية حول ترسيم الحدود البحرية، وفعلاً بمصير الاتفاق النووي في ضوء الرفض الأميركي للمطالب الإيرانية. وفي الحالتين، تُرجم موقف “حزب الله” كرسالة تصعيد وتحذير إيرانية عشية العودة الرئاسية الأميركية إلى المنطقة.
كانت إيران منذ فترة تحتفي بإخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط وغرب آسيا. بعد اغتيال قاسم سليماني مطلع 2020، اعتبرت طرد الأميركيين مهمتها الأساسية، ولدى مغادرة هؤلاء أفغانستان اعتبرت انسحابهم انتصاراً لها. وبينما كان بايدن يلتقي الرئيس الفلسطيني محمود عباس في بيت لحم، كان الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي يرفع الصوت مهدداً من كرمنشاه: “إن أي خطأ يرتكبه الأميركيون في هذه المنطقة سيواجه بردّ قاسٍ يبعث على الندم”. ليعلن أيضاً “أن الشعوب الإسلامية في المنطقة تكره العلاقات المهينة لحكوماتها مع أميركا”. كان ذلك بمثابة ادعاء فارغ عن تمثيل إيران لمصالح المنطقة ومعرفتها بها أكثر من معرفة حكوماتها وشعوبها، وهو في الوقت ذاته تحريض على تلك الحكومات التي ستلتقي بايدن في اليوم التالي.
ادعاء التمثيل واكبه كالعادة تهديد بالعنف. ورداً على عدم استبعاد بايدن خيار “القوة” لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، حرص المتحدث باسم القوات المسلحة الإيرانية العميد أبو الفضل شكارجي على تذكير الأميركيين بسلسلة انتصارات إيرانية سابقة، بينها على وجه الخصوص “الهزيمة المذلة للولايات المتحدة وحلفائها ضد جماعة أنصار الله اليمنية، والهزيمة في حرب الـ33 يوماً مع حزب الله في لبنان، والهزيمة في الحرب التي استمرت 22 يوماً مع حماس في فلسطين…”.
لم يكُن في سلسلة الانتصارات تلك أي وجود إيراني غير انتماء المشاركين في المعارك إلى الولي الفقيه. لم تخُض إيران أي معركة مباشرة، لكنها حريصة على التذكير بأدواتها وعزمها على استخدام هذه الأدوات عندما تقتضي حاجاتها.
خلاصة اجتماعات جدة يفترض أن تكون كافية لتبريد الرؤوس الحامية في طهران. كان الجميع ممن شاركوا في تلك الاجتماعات حريصاً على إقامة علاقات جوار طبيعية مع إيران، حتى بايدن نفسه حضّها على حسم أمرها والعودة إلى الاتفاق النووي، وهو ما تريده الدول العربية وتسعى إليه.
خلصت قمة جدة السعودية – الأميركية والقمة العربية – الأميركية واللقاءات الثنائية العربية – الأميركية إلى إرساء خريطة طريق ثابتة لمستقبل العلاقات الأميركية – العربية. أكدت أميركا أنها باقية ولن تسمح بفراغ يملؤه الروس والصينيون والإيرانيون، ورسم الجانب العربي رؤى مشتركة مع الأميركيين في ما يخص المشكلات التي يعانيها العالم العربي من فلسطين إلى اليمن ولبنان وسوريا وليبيا والسودان. جوهر تلك الرؤى التأكيد على السيادة الوطنية والاستقلال، وقيام حكومات تتولى المسؤولية وتناهض الإرهاب والميليشيات. لم يشِر البيان السعودي – الأميركي إلى دور إيران وميليشياتها، أو غيرها، في سوريا. اكتفى بالتأكيد على التزام أميركا والسعودية “الحفاظ على وحدة سوريا واستقرارها ووحدة أراضيها، ودعمهما لجهود المبعوث الخاص إلى الأمم المتحدة لإيجاد حل سياسي للنزاع …”. ولم يتحدث البيان عن دور إيران و”حزب الله” في لبنان، واكتفى بالتعبير “عن دعمهما المستمر لسيادة لبنان وأمنه واستقراره، وللقوات المسلحة التي تحمي حدوده وتقاوم تهديدات المجموعات المتطرفة والإرهابية”. وأشار البيان السعودي – الأميركي “إلى أهمية تشكيل حكومة لبنانية وتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية هيكلية شاملة، تضمن تغلب لبنان على أزمته السياسية والاقتصادية، وعدم تحوله إلى نقطة انطلاق للإرهابيين أو تهريب المخدرات، مشددين على أهمية بسط سيطرة الحكومة اللبنانية على جميع الأراضي اللبنانية، بما في ذلك تنفيذ أحكام قرارات مجلس الأمن الدولي واتفاق الطائف… فلا تكون هناك أسلحة إلا بموافقة الحكومة ولا تكون هناك سلطة سوى سلطتها”.
في النظرة الإقليمية كما في تفاصيل الاتفاقات الثنائية في الاقتصاد والمال والأمن، كرست “قمة جدة” نهجاً كان قائماً في نظرة المجموعة العربية المشاركة في اللقاءات مع الأميركيين. واكتسب هذا النهج قوة ومناعة بسبب الالتزامات الأميركية الصريحة التي حرص بايدن على تأكيدها، ما يضع المنطقة على أبواب مرحلة جديدة يفترض بكل المعنيين بها أخذها في الاعتبار، بدءاً من إيران وتركيا وروسيا وصولاً إلى العالم الأبعد.
كانت إيران تعتقد أن بإمكانها جعل خطابها المتوتر يطغى على جدّية المباحثات العربية – الأميركية، ولم تُخْفِ رغبتها بجعل زيارتي الرئيسين الروسي والتركي إليها مطلع الأسبوع منصة لمواجهة سياسية مع زيارة بايدن العربية، لكن آمالها تلك سيصعب تحقيقها. روسيا أعادت التأكيد أن هدف اللقاء الثلاثي هو بحث التطورات في سوريا. البيان السعودي – الأميركي بشأن سوريا لا يزعج روسيا، ويبقى عليها في طهران أن تعالج تناقضات شريكيها التركي والإيراني على الأرض السورية.
حتى الاتفاق النووي لن يكون مطروحاً أمام ثلاثي طهران. الصحيفة الروسية “نيزافيسيمايا غازيتا” حسمت الأمر: “احتمال أن يتطرق الزعماء إلى مصير الاتفاق النووي ضعيف، علماً أن كثيراً يتوقف على نجاح المفاوضات النووية، وقبل كل شيء إذا ما كان النفط الإيراني سيظهر في السوق العالمية، بالتالي انخفاض سعر الذهب الأسود. سوف يصب ذلك في مصلحة أميركا وليس في مصلحة روسيا!”.
من دون شك، أسهم حضور بايدن إلى جدة في رسم ملامح مرحلة جديدة سيأخذها الجميع في الاعتبار، فكيف ستتصرف إيران المعزولة إلا من محورها وميليشياتها؟
في الملامح الجديدة أن قادة العرب الجدد هم من يرسمون مصالح دولهم وشعوبهم، ولا ينتظرون ما يحمله إليهم الضيف الأميركي. وما يريده هؤلاء بعد تجارب غير مريحة مع الولايات المتحدة هو دعم لموقفهم المستقل. لم يذهبوا إلى تبني الاشتباك الأميركي مع روسيا أو الصين، فلهم مع البلدين علاقات وطيدة، ولم يتحمسوا لخيارات تهديد إيران عسكرياً كما فعلت إسرائيل، فهم يريدون ردعها عن التدخل في شؤونهم. ورداً على دعوات الاندماج والسلام مع إسرائيل، جاء تمسكهم صريحاً بحق الفلسطينيين بدولتهم المستقلة إلى جانب دولة إسرائيل. وحتى في مطالب بايدن النفطية، كان جواب وزير النفط السعودي بليغاً “شؤون أوبك+ تناقش في أوبك+”، بينما كان ولي العهد محمد بن سلمان يوضح أن الإنتاج السعودي بلغ طاقته القصوى.
ربما لو كانت روسيا حاضرة لوافقت على حصيلة جدة، أما تركيا، فستتمنى لو أنها كانت مدعوة إلى القمة العربية – الأميركية. أما بايدن، فيعود إلى بلاده منهياً نظرية سادت طوال السنوات الماضية عن الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط.