عن اتفاقية الحبوب الروسية الأوكرانية
بقلم: د. سنية الحسيني
النشرة الدولية –
قفزت أسعار القمح والذرة في أسواق السلع العالمية يوم الإثنين الماضي، بعد انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب مع أوكرانيا. وكانت أسعار المواد الغذائية ارتفعت عالمياً بنحو ٤٠ بالمائة بعد الحرب الروسية الأوكرانية بسبب أهمية البلدين كسلة غدائية لدول العالم، اذ تعد أوكرانيا خامس أكبر مصدر للقمح على مستوى العالم، ومن أهم مصدري زيت عباد الشمس، ومن بين أهم الدول المصدرة للشعير والذرة، كما تعد روسيا أكبر مورد عالمي للأسمدة. وأعلنت روسيا يوم الإثنين الماضي انتهاء سريان العمل باتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، والتي تسمح بمرور الحبوب الأوكرانية وعناصر غدائية أخرى إلى خارج أوكرانيا. وجاء ذلك الإعلان بعد يوم واحد من مغادرة آخر سفينة حبوب أوكرانية من ميناء أوديسا. ولا يزال الجدل محتدماً حول مدى احتمال تجديد العمل بالاتفاق، والذي تجدد ثلاثة مرات قبل الآن، جاء آخرها بعد تدخل تركيا لدى روسيا في شهر آذار الماضي، ووافقت موسكو على التمديد لمدة شهرين بدلاً من أربعة أشهر، ثم عادت واستكملت المدة التي انتهت قبل يومين من الشهر الجاري.
بعد توقف صادرات الحبوب من الموانئ الأوكرانية عقب بدء الحرب الروسية في شهر شباط من العام الماضي، وقعت اتفاقية الحبوب بين روسيا وأوكرانيا بوساطة كل من تركيا والأمم المتحدة في إسطنبول، في شهر تموز من العام الماضي. وسمحت تلك الصفقة لثلاثة موانئ أوكرانية بتصدير الحبوب الأوكرانية عبر ممر إنساني فتحه الأسطول الروسي في البحر الأسود، شريطة إتاحة وصول الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية. وسمحت الاتفاقية بشحن أكثر من ٣٣ مليون طن منذ تحرك أول سفينة مطلع شهر آب من ذلك العام حتى يوم الاثنين الماضي، من خلال أكثر من ألف سفينة، الا أن الجزء الخاص بروسيا من الصفقة لم ينفذ، والمتعلق بوصول الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية، بسبب العقوبات الغربية، التي تضع قيوداً على شركات التأمين وخدمات الموانئ والسفن التي تتعامل مع روسيا، وتضع العراقيل أمام صادراتها الغذائية ومن الأسمدة الروسية وتجمد أصول وحسابات الشركات الروسية العاملة في مجال تصنيع المواد الغذائية والأسمدة.
تعد أوكرانيا واحدة من أكبر موردي الحبوب في العالم، الا أن روسيا لا تقل أهمية عنها في تصدير الحبوب والأسمدة وغيرها من المنتجات الضرورية، وتلكأ الغرب في تخفيف العقوبات على روسيا، خصوصاً تلك المرتبطة بالقطاع المالي والمصرفي الروسي، واستمرار منع ربط البنوك الروسية مع نظام شبكة السويفت الدولية. وتشتكي روسيا من أن القيود المفروضة على الشحن والتأمين على منتجاتها عطلت صادراتها من المواد الغذائية والأسمدة، والتي تعد أيضا مهمة لسلسلة الغذاء العالمية، وهو نقض للجزء الخاص بروسيا من اتفاقية الحبوب. ولا يوجد لأوكرانيا منفذ آخر غير ذلك البحري، لتصدير الحبوب نحو العالم، اذ لا ترحب دول شرق الاتحاد الأوروبي بتصدير أوكرانيا لحبوبها من خلالها، وهي الغنية أيضاً بإنتاج هذه الحبوب، فتصدير أوكرانيا لحبوبها عبر تلك الدول يقوض انتاجها محلياً، ويؤثر على سوق محاصيلها، فمنعت بولندا واردات الحبوب الأوكرانية، الأسبوع قبل الماضي، كما أثار مزارعون رومانيون مشكلات على الحدود لذات السبب. وهذا ما يفسر أهمية هذا الاتفاق لأوركرانيا والغرب.
وهددت روسيا مراراً بالانسحاب من اتفاق الحبوب، لعدة أسباب عكستها تصريحات روسية رسمية. وقد يكون أهم تلك الأسباب عدم تلبية الجزء الخاص بها فيه، خصوصاً تلك البنود المتعلقة بتصدير المنتجات الزراعية الروسية. فشددت التصريحات الروسية في شهر أيار الماضي على أنه في حال عدم الوفاء بالجزء الخاص بها في الاتفاق، فلن يكون هناك تمديد أو تجديد لاتفاقية الحبوب، أي بعد السابع عشر من الشهر الجاري. وتتركز مطالب روسيا وفق صفقة الحبوب على إعادة ربط البنك الزراعي الروسي بنظام نظام “SWIFT” الدولي للمدفوعات، واستئناف توريد الآلات الزراعية وقطع الغيار اللازمة للعمل في المجال الزراعي الروسي، وإلغاء الحظر الغربي على لوجستيات النقل والتأمين، وإعادة إحياء خط أنابيب الأمونيا بين مدينتي تولياتي الروسية وأوديسا الأوكرانية، وإلغاء تجميد أصول الشركات الروسية وحسابات الشركات العاملة في مجال تصدير المواد الغذائية والأسمدة.
كما ركزت تلك التصريحات الروسية حول أسباب الانسحاب من اتفاقية الحبوب على استخدام أوكرانيا الممر البحري الآمن الذي وفرته روسيا لنقل الحبوب الأوكرانية للعالم في تنفيذ هجمات أوكرانيا ضدها بطائرات مسيّرة. وقد انسحبت روسيا بالفعل من هذا الاتفاق، بعد هجمات أوكرانية وقعت على مواقع تابعة لها، وجاءت استغلالاً للتسهيلات التي سمحت بها روسيا، وفق ذلك الاتفاق. فتوقف العمل بالاتفاق في شهر تشرين الأول من العام الماضي بعد تفجير في جسر القرم، أشارت التحقيقات الروسية إلى أنه حدث نتيجة حمولة متفجرة في إحدى شاحنات الحبوب الأوكرانية. كما جرى استهداف سفن روسية راسية في ميناء سيفاستوبول في ذلك الوقت، كانت ضمن الأسطول المشارك في اتفاق نقل الحبوب، من قبل طائرات مسيرة، واشارت التحقيقات الروسية إلى أن تلك الطائرات خرجت من أوديسا الأوكرانية باتجاه القرم. ولم تتراجع روسيا في الشهر التالي، عن قرارها بتعليق الاتفاقية، الا بعد تدخل تركي، ومنح الجانب الروسي ضماناتٍ بعدم التعرض لأسطولهِ أو المساس به، وتعهداً أوكرانياً كتابياً بعدم استخدام الممر الآمن، الذي توفره روسيا لاوكرانيا، في العمليات العسكرية.
ومن بين تلك الأسباب الأخرى التي تستخدمها روسيا لوقف العمل باتفاق الحبوب وعدم تجديده، عدم وصول القمح الأوكراني للدول الفقيرة والنامية ووصوله فقط وبشكل حصري للدول الغنية الغربية في الاتحاد الأوروبي. فاعتبر الرئيس الروسي أن الهدف الرئيس من اتفاق الحبوب الأوكرانية، لم يتحقق، والمتمثل بتسليم الحبوب إلى البلدان المحتاجة، ولا سيما في القارة الأفريقية. والحقيقة أن ٤٣ بالمائة من الحبوب الأوكرانية المشحونة بحرياً نقلت إلى أوروبا، بينما ١٧ بالمائة منها فقط وجد طريقه للدول المتوسطة و٢.٥ بالمائة منها ذهب للدول الفقيرة. وكان بوتين قد أكد على استعداد بلاده لتصدير الحبوب إلى البلدان الأكثر فقراً، بالتنسيق مع قادة الدول الأفريقية. وتعد روسيا وأوكرانيا من أهم المصدرين للقمح والشعير وزيت عباد الشمس بأسعار معقولة، الأمر الذي يفسر اعتماد الدول النامية والفقيرة على إنتاج البلدين.
ورغم أهمية كل من روسيا وأوكرانيا في سوق الحبوب عالمياً، الا أن دول العالم عقدت اتفاقيات عديدة لانتاج واستيراد القمح بعد الحرب، فمصر على سبيل المثال لديها احتياطات آمنة من عدد من السلع الاستراتيجية على رأسها القمح تغطي الأشهر الستة القادمة، كما أنها نوعت مصادر إمداداتها من جهات متعددة. كما أن روسيا استطاعت اختراق الحصار الغربي باتجاه آسيا، واستطاعت الوصول الى الجهة الجنوبية من العالم. ولا تزال المساعي الدولية حاضرة لإحياء الاتفاق، الا أن إحياء الاتفاق يبقى مرتبطاً بتلبية الجزء الخاص بالالتزامات الغربية تجاه روسيا فيه. فلا يزال الأمين العام للأمم المتحدة ينتظر ردًا من بوتين على مقترح لتمديد الاتفاق، في حين أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على أن تواصله مع نظيره الروسي لإحياء الاتفاق مستمر، رغم التصريحات الروسية، خصوصاً خلال زيارة بوتين المتوقعة لبلاده الشهر المقبل، مع تأكيده على أن ذلك النقاش سيكون بالتوازي مع مناقشة سبل نقل الحبوب والسماد الروسيين أيضاً إلى العالم. وتدعم الحكومة التركية روسيا في مطالبها، والمتعلقة بشروطها لتجديد صفقة الحبوب، في ظل رفض الأطراف الغربية تلبيتها.