“مزيج” يجمع أنماطا موسيقية تونسية بمشاركة فلسطينية

كسر الضوابط الموسيقية في تونس يتطلب الكثير من الجرأة والبحث

النشرة الدولية –

العرب – حنان مبروك –

إذا امتزجت الأذواق الموسيقية بإشراف أكاديمي، أفرزت مشاريع فنية مبتكرة ومختلفة عن المادة التي يعاد الاقتباس منها حتى أصبحت مستهلكة. وهذا ما كان في عرض “مزيج” الذي مزج بين أنماط موسيقية وراقصة مختلفة ليبعث إلى التونسيين رسالة مفادها أن هناك موسيقى ورقصا لا يعرفون عنهما شيئا رغم أنهما جزء من تاريخ بلادهم وهويتها.

بعد إقامات فنية انعقدت طوال الأشهر الماضية، وحوارات ونقاشات عن الموروث الموسيقي في تونس، خرج الأكاديمي والفنان التونسي زهير قوجة بمشروع فني يبحث في خصائص الأنماط الموسيقية التونسية ليقدمها برؤية فنية جديدة، تمزج بين اللحن والكلمة وحتى أنماط الرقص التي تختلف من شمال البلاد إلى جنوبها.

وحمل المشروع الفني عنوان “مزيج”، وجمع بين قوجة وثلة من المغنين والعازفين والراقصين التونسيين الذين يمارس كل واحد منهم الفن الذي يعبّر عن هويته وهوية أجداده والمنطقة الجغرافية التي يقطنها.

موسيقات متمازجة

اشتغل الفنان زهير قوجة على عرضه “مزيج” انطلاقا من إيمانه بأن “الموسيقى التونسية” ليست إلا تعبير فضفاض لا يعكس الثراء الفني في تونس، وبأن الموسيقى ما هي إلا موسيقات متمازجة، تحتاج الكثير من البحث والتوثيق والدراسة والاطلاع؛ فكل منطقة وحي وحتى عائلة قد تملك موسيقاها الخاصة التي على الأكاديميين الاقتراب منها وتعلمها على يد فنانيها الأصليين الذين يغنونها بالفطرة ويؤدونها دون تكوين أو تعليم.

الفنان والأكاديمي التونسي زهير قوجة اشتغل على عرضه “مزيج” انطلاقا من إيمانه بأن الموسيقى ما هي إلا موسيقات متمازجة

هذه الخطوة هي ما يفتقد إليه الفنانون التونسيون حسب قوجة؛ فلطالما سجنت الموسيقى التونسية في رؤية فنية حضرية جعلت الأكاديميين والمهنيين يدورون في فلك منظومة فنية واحدة تمنع التجربة والخروج عن الحدود الواضحة التي رسمها الذوق العام لسكان المدن وتحديدا سكان العاصمة الذين رسخوا فكرة المركزية الفنية، المرتبطة بدورها بمركزية صناعة القرار السياسي والرياضي والاجتماعي وغيرها، فالعاصمة هي الأصل والمنبع والبقية هوامش، وفق تصور هؤلاء.

والمتأمل والباحث في الموسيقات التونسية قد يكتشف ألحانا وأغنيات وأنماطا موسيقية غريبة، يظنها المستمع للوهلة الأولى نغمات أفريقية، أو جزائرية أو ليبية أو إسبانية أو غير ذلك، لكنها تونسية بامتياز، غناها ولحنها تونسيون وتوارثها الأبناء وبعضها يواجه خطر الاندثار لولا جهود قليلة تتحدى الأنماط الجاهزة وتعبّر عن هويتها الفنية دون خجل أو خوف وتردد.

ولم يأت عرض “مزيج” ليمزج فقط بين الأنماط الموسيقية التونسية، وإنما كان مزيجا بين الآلات الموسيقية التقليدية مثل “القمبري” و”الشقاشق” و”الجامبي” والطبل و”الزكرة” والقصبة الشاوية والمزود وغيره، بالإضافة إلى الآلات الموسيقية الإلكترونية كالغيتار والأورغ، وذهب زهير قوجة إلى ما هو أبعد من ذلك حيث طوّع آلة العود لعزف إيقاعات السطمبالي، معبرا عن اقتناعه بأن “العود التونسي” -أو العود الذي يتم تعديله وفق المدرسة التونسية- قادر على التشبه بآلات وترية تقليدية مثل القمبري حتى أن عازف العود بإمكانه عزف القمبري، والعكس صحيح.

واستغل زهير قوجة هذا العرض ليوجه رسالة تطالب بإعادة إبراز الدلالات الموسيقية التي طمستها السياسة وضيقت عليها الخناق، وبإجراء البحوث الأكاديمية والاستقصاءات الصُّحفية الميدانية التي تنفض من شأنها ان تنفض الغبار عن الأنواع الموسيقية المنسية وتعرّف بها لدى الجمهور التونسي الذي يمكن اعتبار أنه جمهور “يجهل” الكثير من موسيقات بلاده.

المرأة بطل العرض

 

◙ الشقراء وصال ناصر غنت أغاني السطمبالي، تلك التي سجنها المجتمع التونسي في المرأة ذات البشرة السوداء
◙ الشقراء وصال ناصر غنت أغاني السطمبالي، تلك التي سجنها المجتمع التونسي في المرأة ذات البشرة السوداء

 

تعددت الأنماط الموسيقية والوصلات الراقصة في العرض الذي قدم في مهرجان الحمامات الدولي للموسيقى، فبدت لوحة فنية جديدة على المتفرج، حيث أدى رقصات السطمبالي والرقصات المعاصرة فنانون محترفون، من بينهم كريم توايمة الذي يعد واحدا من أمهر الراقصين التونسيين، والذي يمارس الرقص المعاصر لكنه يرقص السطمبالي الذي يعدّ نمط رقص يتطهر به الإنسان روحيا من قرقعة سلاسل العبودية التي رافقت رحلة السود والأحباش إلى أسواق النخاسة، هؤلاء الذين طرقوا سلاسل الحديد ورافقوا الإيقاع بهمهمات تفيض ألما وغضبا، وصارت رقصاتهم اليوم تعبيرا عن الفرح رغم أنها تسرد عقودا من المعاناة ومحاولات التحرر.

وفي هذا العرض المخالف للمألوف غنت الشقراء وصال ناصر أغاني السطمبالي، تلك التي سجنها المجتمع التونسي في المرأة ذات البشرة السوداء، الزنجية التي تمارس طقوسا روحية في مقامات الأولياء الصالحين، فتغني كلمات غامضة تبدو أشبه بطلاسم لإخراج الجن وشفاء المريض ورد الغائب والحبيب. وأن تغني امرأة شقراء مثل هذه الأغنيات لهو ثورة على المسار المجتمعي ومحاولة للتجديد في الطرح الموسيقي الذي قد يفتح الباب أمام دخول أصحاب البشرة البيضاء عالم “السود” التونسيين لاقتباس موروثه الفني وتقديمه في حلة جديدة.

وليست وصال ناصر المرأة الوحيدة التي حضرت فكسرت النمط التقليدي، وإنما أيضا ديمة الساحلي، الطفلة التي لم يتجاوز عمرها الأحد عشر عاما، قمحية البشرة التي رقصت مرات فوق الخشبة على الإيقاعات المختلفة، فتمايلت على نغمات السطمبالي والأغاني الشاوية.

ولم ترقص الطفلة بخطوات مدروسة بل حاولت بحس الأطفال أن تجاري إيقاعات الموسيقى، وترك لها مخرجو العرض حرية التنقل فوق الخشبة، وهي حرية تضفي على العرض الموسيقي بعض التلقائية التي تذكرنا بأي شخص قد يستمع للموسيقى فينهض للرقص بإرادته، متبعا رغبته الدفينة في الفرح والاستمتاع بالنغمات الموسيقية وقرع الطبول.

وكان الحضور اللافت في العرض للفلسطينية شهد عواودة، ابنة الضفة الغربية وتحديدا مدينة الخليل، التي حملها شغفها بالموسيقى والفن إلى تونس حيث التحقت بالمعهد العالي للموسيقى وبدأت تشكل ملامح حلمها على طريقتها.

غنت شهد أغاني السطمبالي التي تبدو طلاسم صعبة الفهم حتى على التونسيين، ورقصت أيضا، فلم يدرك الجمهور بسهولة أنها فلسطينية بالكاد عاشت خمس أو ست سنوات في تونس، لكنها سرعان ما أتقنت اللهجة التونسية وبدأت تلتمس أولى خطواتها في الفن من هذا البلد، ولم تخف من خوض تجربة “مزيج” فهي تعتبر نفسها فلسطينية – تونسية ولا مهرب من الانغماس في الفن التونسي طالما أنها تدرس الموسيقى في الجامعات التونسية وتشارك التونسيين حياتهم اليومية وكافة تفاصيلها السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

وشهد عواودة عازفة قانون، تلك الآلة الشرقية، وهي أيضا عاشقة للموسيقى التونسية وخاصة السطمبالي.

وبمشاركة هؤلاء النسوة اللواتي صنعن الفارق الأكبر في المشروع الفني كان “مزيج” الذي امتد على تسعين دقيقة عرضا موسيقيا تقليديا وراقصا ثري المحتوى، عمل على دمج التراث الموسيقي للجنوب الشرقي والوسط والشمال والشمال الغربي التونسي في توزيع جديد ممزوج بالموسيقى الإلكترونية وجمع ثلّة من الموسيقيين والعازفين من مختلف محافظات الجمهورية.

وبهذا المشروع الفني أوضح الأكاديمي والفنان زهير قوجة أن لكل منطقة من تونس هويتها الفنية وخصائصها المميزة التي تحتاج إلى إرادة سياسية بالأساس توجه باعتماد سياسة ثقافية تحمي التراث اللامادي وتعرّف به في الأوساط الداخلية ولِمَ لا الخارجية.

 

Back to top button