حتى الأعمال الفنية تواجه ممارسات استثنائية للقمع

لا فرق بين عرب وغرب: القمع والتدمير يطالان الأعمال الفنية التشكيلية في كل مكان وزمان

النشرة الدولية

العرب  – حنان مبروك –

تتبع الحكومات منذ عقود، توجها متشابها في إقامة منحوتات كبرى وتماثيل وجداريات على أسماء أشخاص ورموز حظوا باحترام وتقدير، لكن بمجرد اكتشاف أن ذلك الرمز قد أخطأ أو تختلف معه الحكومات اللاحقة أيديولوجيا، سرعان ما يكون أي عمل فني يعبّر عنه وعن توجهاته وسياسته محل تتبع وقمع شديدين، حتى أن التاريخ يكشف كل مرة عن لوحات ومنحوتات “أعدمت” أو حتى أخفيت خشية إتلافها.

لا يهتم العامة لأمر الفن خلال الحروب أو الانتفاضات الشعبية والانقلابات السياسية الكبرى، لكنه يعدّ واحدا من أكثر القطاعات تضررا من الاختلافات الفكرية، حيث “تكفّن” الأعمال التشكيلية مثلا للحفاظ عليها من يد الدمار، بينما تهدم الشعوب المتحمسة للتغيير تماثيل لرموز سياسية وفكرية، ويلاحق رجال الأمن الفنانين المعارضين لإجبارهم على الخضوع والولاء المطلق، أو تمضية بقية حياتهم في المنفى ليس أمامهم إلا انتظار تغير فجائي في النظام السياسي أو عفو لم يكن في الحسبان.

وكشفت الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا، الكثير من الممارسات القمعية الاستثنائية في حق الأعمال الفنية، التي مارسها السوفييت سابقا ويمارسها فلاديمير بوتين وجنوده اليوم، حيث يسعون إلى إعدام لوحات لفنانين أوكرانيين من رواد الفن التشكيلي في البلاد، بينما تطال قنابلهم صالات عرض ومسارح وفنانين.

في هذا السياق، نشرت صحيفة الفايننشال تايمز مؤخرا، تقريرا عن الانتهاكات الحاصلة بحق أعمال تشكيلية وفنانين تشكيليين أوكرانيين، حيث سلط التقرير الضوء على فنانة تونسية – أوكرانية تدعى نادية الكعبي كانت بصدد تنظيم معرض تحت عنوان “بلايندستورم”، يدور موضوعه حول أشهر الأعمال التشكيلية التي حجبها القمع الدكتاتوري، لكن معرضها الذي كان مقررا في الرابع من مارس الماضي تأجل بسبب لا يبتعد كثيرا عن القمع، إنها الحرب الروسية على أوكرانيا التي أوقفت الحياة الفنية في كييف ولاحقت الكثير من الفنانين والمبدعين واستهدفت بقنابلها عددا من المسارح ودور العرض.

وكانت نادية تعتزم عرض لوحة تعدّ واحدة من اللوحات الشاهدة على القمع الدكتاتوري، بعنوان “إطلاق النار في مزيهيرية”.

تصور اللوحة الشهيرة التي رسمها الفنان الأوكراني فاسيلي سيدليار عام 1927، رجلا من العامّة أمام كوخه بينما يصوب الجندي الروسي في اتجاهه، وتكشف مقتل الأوكرانيين على يد القوات التابعة للإمبراطورية الروسية خلال الحرب الأهلية التي امتدّت من 1917 إلى 1921. وعلى الرغم من أن هذه اللوحة تنتقد أعداء الجيش السوفييتي، إلا أن النظام أعدم راسمها في 1937. وبقيت اللوحة مخبأة في مخازن المتحف الوطني للفنون في أوكرانيا في كييف، حيث تدهورت حالتها بشدة. ثم عادت إلى قاعة العرض بعد الحرب الباردة.

ولم يكن هذا النوع من القمع نادرا. فقبل غزو فلاديمير بوتين في فبراير، كان الخبراء الأوكرانيون يتحدون مفهوم “الطليعة الروسية” لأن الحركة شملت العديد من الرسامين الأوكرانيين، مثل كازيمير ماليفيتش المولود في كييف. وقد عانوا، مثل سيدليار، خلال حكم جوزيف ستالين (1953-1922)، وبقيت أصولهم الأوكرانية غير مرئية.

وتقول الفنانة إن فكرة المعرض برزت عندما قابلت كبيرة أمناء متحف الفن الوطني الأوكراني أوكسانا بارشينوفا وأخبرتها عن اللوحات المخفية. وعندما أدركت مقدار إخفاء السوفييت للفن الأوكراني وعدد الفنانين الذين “اغتيلوا أو مُحي ذكرهم من التاريخ أو أجبِروا على العيش في المنفى” قررت الفنانة في معرضها المؤجّل اعتبار كل لوحة إنسانا وتقديم قراءة في الأضرار التي لحقت بها كخرائط لتاريخها.

قوة تخريبية في كل زمان

 

تمثال يرمز إلى مدينة سطيف دمره مواطن جزائري رافض للتماثيل العارية
تمثال يرمز إلى مدينة سطيف دمره مواطن جزائري رافض للتماثيل العارية

 

كما ساعدت الفنانة المؤرخ تاراس سامشوك المقيم في كييف في بحثه عن الأعمال التشكيلية التي كانت ضحية القمع. وترى الفنانة التونسية أن اللوحات عادة ما تتعرض إلى الصنصرة إما لأنها كانت مجردة بدرجة تتحدّى إملاءات الواقعية الاشتراكية السوفييتية، أو لأن أصحابها “دافعوا عن مصالح أوكرانيا الوطنية” أو لأنهم “من أنصار القادة السياسيين الأوكرانيين الذين اعتبر ستالين أنهم يشكلون تهديدا”.

وأكدت اكتشافاتها في القوة التخريبية التي طالت الفن في أزمنة الاستبداد. حيث سرق النازيون، على سبيل المثال، الأعمال ليس “لأنها كانت ثمينة ولكن لأنهم اعتقدوا أنها ستعرّفهم أكثر على عدوهم”. وكتب مسؤول سوفياتي على ظهر إحدى اللوحات: “لن تقبل البروليتاريا هذا أبدا”.

وبلا شكّ، عند افتتاح معرض الفنانة التونسية، سيكون عدوان بوتين قد أثر على أوكرانيا أكثر. ويُعتقد أن القوات الروسية قد نهبت أكثر من ألفي عمل فني وألحقت أضرارا بـ250 مؤسسة. كما اختطفت غالينا أندرييفنا كوشر، أمينة المعرض في ميليتوبول بعد أن رفضت الكشف عن معلومات حول مجموعة المتحف.

ومع ذلك، وعلى الرغم من كل الصعاب، فقد أعيد افتتاح بعض المتاحف في كييف بما في ذلك مجمع ميستيتسكي أرسنال الوطني للفنون والثقافة الذي يشكّل عرضه الجديد، عرضا لمشاعر الأوكرانيين حول الأذى الذي ألحِق بأوكرانيا وشجاعتها في مواجهة الغزو.

◙ الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا، كشفت الكثير من الممارسات القمعية الاستثنائية في حق الأعمال الفنية

لكن بعض الأوضاع تدعو إلى الأمل. حيث ترى الفنانة التونسية نادية الكعبي أن الأحداث في أوكرانيا تذكر بالأحداث في برلين قبل 20 عاما. إذ هناك حركة ديناميكية وإيجابية يشنها الفنانون الأوكرانيون والأوروبيون أيضا. ويوجد مشهد فني نابض بالحياة سيصمد في وجه الحرب، يوحي بأن روسيا لن تنجح هذه المرة في دفع الثقافة الأوكرانية إلى العمل السري.

ولا يقتصر القمع الدكتاتوري على أوكرانيا، بل يتعداها إلى دول غربية أخرى، حيث تفيد تقارير والعديد من مقالات الرأي لنقاد وفنانين وباحثين في علم الاجتماع بأن المدن الألمانية لم تعد تعرض تماثيل للعصر النازي. فلقد دُمر العديد منها جراء القصف العنيف خلال الحرب العالمية الثانية ثم صهرت وأعيد استخدامها أثناء إعادة البناء لتشييد تماثيل لعصر ما بعد النازية، فالحلفاء المنتصرون لم يتوانوا عن قمع أعمال فنية كثيرة حيث أصدروا مرسوما في عام 1946 يمنع أي مظهر من مظاهر الرايخ الثالث، بما في ذلك التماثيل، لذلك صار أي عمل فني يعبّر عن حقبة النازية غير قانوني ويجب تدميره.

وفي عام 2020، تم هدم تماثيل في جميع أنحاء العالم في موجة غير عادية من تحطيم الأيقونات، حيث انتشرت في الدول الإمبريالية السابقة ومستعمراتها، بدءا من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى كندا وجنوب أفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي والهند وبنغلاديش ونيوزيلندا، حملات جماعية وممارسات فردية لإزالة تمثايل لرموز وشخصيات، وقام المتظاهرون بتشويه وتدمير تماثيل تجار وملاك العبيد ورموز لشخصيات وقادة كونفدراليين وإمبرياليين.

وكانت هناك مثل هذه الموجات الغاضبة تجاه تماثيل الرموز والشخصيات، من قبل أثناء انفصال إنجلترا عن روما والثورة الفرنسية وسقوط الاتحاد السوفييتي وما إلى ذلك، لكن تحطيم الأيقونات التقليدية عام 2020 كان ظاهرة عالميا تدعو إلى الوقوف على أسبابها وتداعياتها.

قمع عربي استثنائي

تمثال صدام حسين يقتلعه جنود الاحتلال الأميركي ومواطنون عراقيون
تمثال صدام حسين يقتلعه جنود الاحتلال الأميركي ومواطنون عراقيون

شهدت بلدان عربية كثيرة على مرّ العصور وخاصة منذ العقد الأول للألفية الثانية وصولا إلى ما يعرف بالربيع العربي، تشويه لوحات وتماثيل وأعمال فنية لأسباب سياسية. ففي سوريا، دمر تنظيم الدولة الإسلامية داعش، مقتنيات متاحف، كما دمّر واجهة المسرح الروماني والتترابيلون في مدينة تدمر بعد فترة قليلة من تفجيره معابد وأبراج دفن وقوس النصر في المدينة التاريخية، كما دمر مسلحوه معبد بل، الذي كان يعد واحدا من أهم الصروح الدينية في الشرق في القرن الأول الميلادي، وهي ممارسات نددت بها أغلب الدول والمنظمات العالمية لما لها من أثر في تدمير التاريخ الفني للشعوب.

كما أن عدد الفنانين الذين انخرطوا في العمل الثوري تشكيليا – في سوريا وخارجها –  ليس بالقليل، وعلى سبيل الذكر، يعدّ رسام الكاريكاتور السوري علي فرازات، أحد أكثر الفنانين تضررا من الأنظمة الدكتاتورية حيث أدّت رسوماته التي انتقدت نظام الرئيس السوري بشار الأسد وممارساته الفنية الداعية إلى التحرر والثورة إلى اعتقاله وضربه وتكسير أصابعه، وهو ممنوع من تنظيم معارض فنية داخل بلاده.

◙ بلدان عربية كثيرة شهدت على مرّ العصور  تشويه لوحات وتماثيل وأعمال فنية لأسباب سياسية

وفي العراق، إحدى أهم الدول العربية حضارة وتاريخا تم هدم تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس في بغداد في عام 2003، وبينما ابتهج العديد من كبار السن بالحادثة، كان بعض الشباب أقل تعبيرا عن الفرح.

وتم تقديم هدم التمثال إلى العالم على أنه ذروة انتصار عملية تحرير العراق من نظام صدام حسين، وحرصت قوات التحالف على تصوير لحظات الإيقاع بالتمثال، لتظهر نفسها كمحررة سمحت للشعب العراقي بالانتفاض أخيرا وهدم أقوى رمز للدكتاتور الذي اضطهدهم لعقود. كما قامت القوات أيضا بإزالة العشرات من تماثيل صدام.

وتعرض النصب التذكاري لأبي جعفر المنصور لتفجير في أكتوبر 2005، إبان موجة العنف الطائفي التي شهدها العراق آنذاك. وهو عبارة عن مجسم لرأس المنصور نصب فوق قبة يبلغ ارتفاعها خمسة أمتار بنيت وفق الطراز المعماري البغدادي. ثم أعلنت السلطات العراقية في عام 2008، عن إعادة النصب وتركيب التمثال.

ومن حين إلى آخر تتجدد الدعوات المطالبة بهدم تمثال المنصور وهو الخليفة العباسي الثاني، والمؤسس الحقيقي للدولة العباسية، وباني بغداد التاريخية. والذي يقع في جانب الكرخ، في منطقة المنصور من بغداد، وقام بنحته الفنان العراقي خالد الرحال، أحد أبرز رواد الحركة الفنية العراقية الحديثة، وأزيح الستار عنه في 6 يناير 1977 في عهد الرئيس العراقي أحمد حسن البكر، ليصبح واحدا من أبرز معالم العاصمة.

عنصرية مقيتة

زين العابدين بن علي حرص على إزالة كل التماثيل للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، مؤسس الجمهورية الأولى

في السودان أيضا، تزينت الشوارع بجداريات عملاقة إثر الاحتجاجات التي أطاحت بنظام عمر البشير، وصارت رمزا للطبيعة الشعبية للحركة الاحتجاجية، التي قادها نشطاء شباب عوضا عن أحزاب سياسية معارضة. لكن السلطة الانتقالية قادت في العام 2019 حملة لإزالتها، لم تتوقف إلا بفعل الضغط والتنديد الشعبي وبعد نجاحها في محو عدد كبير من الرسومات.

ولا يبدو الأمر مختلفا كثيرا في تونس، فطوال ثلاثة وعشرين عاما من حكمه، حرص الرئيس السابق زين العابدين بن علي على إزالة كل التماثيل للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، مؤسس الجمهورية الأولى، ورمز الديمقراطية التونسية. وبعد ثورة يناير 2011 بنحو خمس سنوات، بدأت السلطات تعيد التماثيل إلى “معاقلها” وأولها التمثال الشهير في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، والذي يصور بورقيبة ممتطياً صهوة جواده وملوّحاً بيده، وأنجز سنة 1982 بطلب شخصي من الحبيب بورقيبة، حيث قام بنحته الرسام التونسي زبير التركي.

ولم يفوت النظام السياسي حين إعادة تمثال بورقيبة، الفرصة للظهور بهيئة المحرر للبلاد، حيث قال الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في خطاب ألقاه يومها “عندما نعيد تمثال الحبيب بورقيبة في شارع الحبيب بورقيبة فهذا يرمز إلى أن تونس تحررت وأصبحت دولة حرة مستقلة”.

وفي الجزائر، أزالت السلطات الحكومية طوال سنوات تماثيل لرموز وشخصيات جزائرية وفرنسية حاربت في صفّ الاستعمار الفرنسي، وظل المواطنون يطالبون لسنوات بإزالتها من الميادين والشوارع.

مواطنون شنّوا حملات فردية، تلاحق التماثيل ليس لأنها ترتبط بفترات تاريخية أو بجهات سياسية مكروهة ومرفوضة، وإنما لأنها تصور أجسادا بشرية عارية، كواحد من الأدلة على عنصرية بعض الناس

وشنّ مواطنون حملات فردية، تلاحق التماثيل ليس لأنها ترتبط بفترات تاريخية أو بجهات سياسية مكروهة ومرفوضة، وإنما لأنها تصور أجسادا بشرية عارية، كواحد من الأدلة على عنصرية بعض الناس الذين يخضعون الأعمال الفنية للتقييمات الأخلاقية، وطالت عمليات التدمير تمثال العذراء الذي يتوسط كاتدرائية سانتا كروز بوهران، وتمثال المرأة العارية الذي يتوسط عين الفوارة بسطيف.

كما كان لفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية خلال تسعينيات القرن الأثر الكبير على الأعمال الفنية التشكيلية في البلاد، وتروي بعض التقارير إقدام رؤساء بلديات الشرق الجزائري على اتخاذ أول قرار سياسي ديني لإقامة الأخلاق في المجتمع وتقويمها، وذلك بإزالة تماثيل عارية كانت تزين إحدى الحدائق، بل وصل الأمر إلى حد تغطيتها بملابس بشرية فبدت في هيئة مضحكة.

وربما تكشف كل هذه الأحداث أن الإنسان الذي يستجيب لحملة قمع للأعمال الفنية التشكيلية قد لا يستجيب لأخرى، فكل ذلك مرهون بتوجهاته الفكرية وانتماءاته السياسية والعقائدية، لكن ذلك يكشف أيضا أن التماثيل واللوحات والجداريات لم تكن أبدا حالة فنية مستقلة، ولم توجد من فراغ مطلق وإنما هي نتاج ردود أفعال الفرد والمجموعة تجاه الواقع.

 

زر الذهاب إلى الأعلى