لما كان شارع “الحمراء” يعج بأرقى صالات “السينما”
النشرة الدولية –
مجلة برس بارتو –
زياد سامي عيتاني/إعلامي وباحث في التراث الشعبي
الحنين يعيدنا دائماً إلى شارع “الحمراء”، الذي كان روح بيروت النابض بالحياة..
فهو شارع الثقافة، والإبداع والفن، والمسرح، والسينما..
كلّ مكان محفور في جدرانه وحجاراته ومقتنياته، مئات الحكايات والذكريات والتفاصيل، التي رغم أنّها صارت من الماضي، فإنّها تؤرّخ لحقبة العصر الذهبي لبيروت، يوم كان يطلق عليها “سويسرا الشرق” وجوهرته..
شارع “الحمراء” كان في كلّ الأوقات مزدحماً ومكتظاً بالرواد ليلاً ونهاراً، هو شارع لا ينام، ولا يتعب..
كان شارعاً يجمع كلّ شيء، خليط من كلّ شيء، هو الشارع الوحيد الذي يجمع ويحتضن المصارف والمكاتب والمحال التجارية والمكتبات وكبرى الصحف ومقاهي الرصيف، فضلاً عن أنّه كان مركزاً لأهمّ صالات السينما، التي نشأت وانتشرت في مختلف أرجائه، والشوراع المتفرقة عنه، بعدما كانت قبلاً تتمركز في وسط بيروت التجاري…
ففي يوم الأحد الموافق في 6 تشرين الأول 1957 إفتتح إميل دبغي “سينما الحمراء” في مبنى كان ينوي صاحبه نسيب عريضة تخصيصه للسكن، ثم عدل وحوّله إلى مكاتب، إيماناً منه بالمستقبل التجاري لشارع “الحمراء”.
ولم يتوان دبغي في العام 1959 عن التعاون مع فريد جبر على تأسيس صالة جديدة في بناية مطلة على المدخل الرئيسي للجامعة الأميركية في شارع “بلس”، الذي يشكل امتداداً جغرافياً مكمّلاً لشارع “الحمراء”، وأطلق على الصالة إسم “غرانادا”.
وبحكم وجود الجامعة الأميركية والمكتبات والمطاعم في شارع “بلس”، حيث توقّع له أن يواكب إزدهار شارع “الحمراء” نفسه، مما حدا بمحمد تسبحجي لإنشاء “سينما إديسون” في آخر شارع “بلس” سنة 1960، وبموجب عقد إستثمار تولى الأخوان نايف وفؤاد درويش إدارة الصالة بالتعاون مع “شركة عيتاني- ماميش”.
وفي سنة 1961 أنشأ تسبحجي في قلب شارع “الحمراء” “سينما سارولا”، حيث إنفردت “شركة عيتاني- ماميش” بإدارتها.
وعلى مشارف النصف الأول من الستينيّات، خرجت إلى النور تباعاً، وبإدارة شركة “عيتاني- ماميش” صالتا “كوليزيه” في نزلة “مستشفى الجامعة الأميركية” و”ستراند” في آخر شارع “الحمراء”.
في تلك الأثناء، تغيّر إسم “غرانادا” إلى “سلكت”. وبإنتقال إدارتها في النصف الثاني من الستينيّات إلى “شركة عيتاني- ماميش”، تحوّل إسمها إلى “سينما أورلي”.
بعد ذلك، إنتقلت “شركة أبناء جورج حداد” يمثلها الشقيقان ماريو وميشال إلى تأسيس شبكة رائدة من دور العرض الجديدة، اختير للدلالة عليها حرف E، إختصاراً لكلمة Empir. وكانت الحلم “سينما إلدورادو”، التي أقيمت في وسط شارع “الحمراء”، وإفتتحت سنة 1966.
وفي عام 1967، أنشأ جوني وموسى عسيلي “سينما بافيون”، وقدماها على أنها الشقيقة التوأم لدار “الكابيتول”، التي أسّسها والدهما ألبير في بناية “العسيلي” (إحدى معالم ساحة رياض الصلح في وسط بيروت).
وفي العام نفسه، كان الحدث الأهم والأبرز على صعيد صالات العرض في شارع “الحمراء”، عندما افتتحت “شركة عيتاني- ماميش” صالة “قصر البيكاديلي”، التي اعتبرت تحفة هندسية، حيث تميّزت بتصميمها الذي وضعه المهندسان اللبناني وليم صيدناوي والفرنسي روجيه كاشار، اللذان إستلهما في تصميمها ملامح واضحة من قاعة “أوبرا” في البرتغال.
وكان هدف هذه الصالة التي اقتبس إسمها من “بيكاديلي سكوير” في لندن أن تكون إضافة إلى ضخامة وفخامة “ديكورها”، بأن تكون مجهّزة بأحدث التقنيات العالمية التي تسمح بتقديم مختلف فنون العرض على تنوّعها، من “أوبرا” ومسرح وموسيقى وإستعراضات وسينما، سيما وإنّها كانت تتسع لسبعمئة وثمانين مشاهداً، يجلسون على مقاعد “فوتيات” من المخمل الأحمر.
وأبرز ما ميّز الصالة-القصر، تلك الثريا المتدلية من سقفها المصنوعة من الكريستال البوهامي، التي لم يكن في وقتها مثيلاً لها، سوى في الحرم النبوي الشريف، حيث أحضرت من تشيكوسلوفاكيا، ورُكّبت قطعة قطعة.
افتتح قصر “البيكاديلي” بعروض لفرقة “أوبيرا فيينوار”، وتلتها مباشرة المسرحية الغنائية “هالة والملك” للأخوين رحباني…
من يمرّ اليوم في شارع “الحمراء”، ينعصر قلبه ألماً وحزناً على ما آل إليه، سيما من عاش أوج إزدهاره وتألّقه، يوم كانت اللوحات الضوئية الزاهية بألونها وأنورها الباهرة لصالات العروض السينمائية أشبه بعروض فنية، لا تقل روعة عن ما كان يعرض داخل الصالات نفسها.. فلا مبالغة إذا قلنا إنّها كانت تجعل من شارع “الحمراء” أشبه بشوارع “الشانزليزه” في باربس، و”فيا فيتو” في روما، و”أكسفورد ستريت” في لندن.