ناجي العلي ينتظر الجواب
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
تُصادف هذه الأيام الذكرى الـ35 لاغتيال رسام الكاريكاتير الفلسطيني الأسطورة، ناجي العلي، في لندن، وأيضاً مرور خمس سنوات على قرار الشرطة البريطانية إعادة فتح التحقيق في الجريمة.
ورغم كلّ هذه الفترة التي شهدت فيضاً من الوثائق والتسريبات والشهادات عن الجريمة، إلا أن تقريراً جنائياً رسمياً لم يصدر، ليبتّ في المسؤولية الجنائية، أو يساعد في فك مغالق رزمة من الشبهات فائقة الحرج، طالت أجهزة ومنظمات وقيادات كانت وما زالت تبدو مُحصّنة بالشعارات.
قبل أسبوع من حادث الاغتيال، وتحديداً يوم الجمعة 15 تموز 1987، كنتُ في لندن. استأذنتّ أهل بيت ناجي العلي في أن أصحبه إلى الغداء في فندق شيراتون الأقرب إلى مكان عمله في مكتب جريدة ”القبس“ الكويتية.
كان ناجي في الجلسة هو نفسه الذي عرفتُه طوال العشرين سنة السابقة التي عملنا في معظمها معاً بجريدة السياسة الكويتية.
ناجي الواضح القاطع اليابس الذي تُسعفه حركات يديه وشتائم ”أخوات الشلّيته“ التي احتفظَ بها من طفولته في مخيم عين الحلوة بجنوب لبنان، ليختصر بها توصيفه لمؤسسات الحكم والقيادة، الفلسطينية منها والعربية، وهو يراها شريكاً مع إسرائيل في ترتيبات التسوية التفريطية.
كان ناجي العلي أصوليّاً أرثوذوكسياً في خصومته مع مؤسسات الحكم التي كان يراها مترادفة بتواطؤ، من أجل إدامة الأمر الواقع.
قشرة الرصاص السميكة في صلابة ناجي الجينية، لم تستطع يومها أن تخفي فلتات سرحان عينيه وهو يقول لي: ”هذه آخر مرة نلتقي“.
نفس الجملة قالها لي أمام أهل بيته، وكأنها وداع لهم ولي. لا أدري لماذا لم آخذها كما هي، إلى أن عاودها في جلسة الشيراتون ”هذه آخر مرة نلتقي فيها“.
تنبهتُ فجأة إلى أن ناجي يتحدث كما لم أسمعه من قبل، وهو يقول لي ”فرقة الـ17 خرجت لاغتيالي. المسألة ساعات، ولن تزيد عن أيام“.
في التفاصيل، قال ناجي إن أحد كوادر فتح ممن يحتفظون له بالتقدير السياسي، كان على اطلاع بأن أبو عمار أوعز لوحدة المغاوير المعروفة باسم ”القوة 17“ في لندن بتنفيذ الاغتيال، وأن الفرقة خرجت لتنفيذ المهمة..
كانت تسريبة كادر فتح الأمني تستهدف نصيحة ناجي بأن يغيب عن الأنظار لفترة معينة، وهو ما قرّر ألا يفعله حتى لا يتم الاغتيال بتدمير منزل عائلته.
روى ناجي العلي كيف أن اثنين على الأقل من القيادات الفلسطينية، صلاح خلف والدكتور جورج حبش، كانا يعلمان بترتيبات الاغتيال ولم يفعلا شيئاً لوقفه.
قال: ”عندما وصلتني المعلومة أن فرقة اغتيال خرجت للتنفيذ اتصلتُ مع جورج حبش الذي أكد لي المعلومة“.
وأضاف ناجي: ”اتصلتُ برئيس تحرير صحيفة القبس، محمد الصقر، الذي أذهلته المعلومة فطلب مهلة 24 ساعة ليتأكد. وعندما رجع بالاتصال قال إنه سأل صلاح خلف (أبو إياد) عن حقيقة الموضوع فجاءه الجواب: نعم، الفرقة خرجت وليس بمقدوري أن أفعل شيئاً“.
وأضاف أنها ”المرة الرابعة أو الخامسة التي أوصل فيها أبو عمار لناجي العلي أن يتوقف عن انتقاد القيادة الفلسطينية تحت طائلة قطع يده أو حرق أصابعه بالأسيد“.
وزاد على ذلك بالقول: ”ما عدتُ أتدخل ولا أستطيع وقف تنفيذ المهمة هذه المرة“.
يومها أراد ناجي أن يقول لي إن قرار اغتياله والمباشرة بتنفيذه لم يكن سراً على القيادات الفلسطينية.
طبيعة الاختراقات المخابراتية المعروف أن الفصائل الفلسطينية كانت تعاني منها، أوصلت لناجي ما يشبه القناعة بأن الأمن البريطاني على الأرجح يعرف بالموضوع، وأنه لن يمانع ما دام لن يتحمل مسؤولية المعرفة او المشاركة.
ولذلك كان رأيه في الجلسة أن لا جدوى من تبليغ السلطات البريطانية، كونها لا بد تعرف مثل غيرها من الأجهزة أن الضغوط التي بذلها أبو عمار على السلطات الكويتية لترحيله من الكويت كان المقصود بها أن ينتقل ناجي إلى بلد مثل بريطانيا أو لبنان، ليصبح اغتياله مجرد قضية أمنية دون تبعات سياسية.
وهو يصف قرار عرفات باغتياله، بأنه خلطة من الاعتبارات السياسية والشخصية، ذكرّني ناجي العلي في جلسة الشيراتون، بحديثٍ كان جرى في منزله بالكويت عام 1986 بعد صدور قرار ترحيله لينتقل إلى العمل مع ”القبس“ في طبعتها الدولية بلندن.
كنّا في منزله مجموعة من الصحفيين التقينا لوداعه: محمد الصقر، رئيس تحرير القبس، وطلال سلمان، رئيس تحرير السفير، والأستاذ الجامعي الدكتور أسعد عبد الرحمن، ثم يحيى محمود، وأنا من جريدة السياسة.
في تلك الجلسة كانت قناعة ناجي أن رأسه مطلوب كجزء من ترتيبات تسوية تفريطية للقضية الفلسطينية، تتشارك في تنفيذها قيادة منظمة التحرير وإسرائيل ويجري التمهيد لها بتوفيقات إجرائية.
يومها في الجلسة كرر ناجي العلي القول عدة مرات بأنه ليس من الذين يسبغون على أنفسهم أهمية في غير محلها، لكنه يعرف تماماً أن تمرير تلك التسوية سيكون أسهل إذا جرى إسكات كاريكاتيره اليومي الذي أضحى بين أقوى صناع الرأي العام الفلسطيني وربما العربي.
كان ناجي العلي يقرأ بوضوح من الشواهد المتفرقة في الربع الأخير من ثمانينيات القرن الماضي، بأن شيئاً ما يجري توليفه في السرّ ويستدعي تمشيط السلطة الفلسطينية وإنهاء أي معارضة إعلامية أو تنظيمية محتملة يمكن أن تكبّل أيدي عرفات.
كانت قراءة ناجي غريزية صادقة وهو يؤهل نفسه للاغتيال. لكنه لم يعش ليشهد كيف تحقق حدسه في اتفاقيات أوسلو عام 1993 التي استوجب الوصول اليها تصفية رموز سياسية، مثل خليل الوزير وصلاح خلف، ممن كان يمكن أن يقلصوا حجم التفريط الذي تولى فيه عرفات مشروع دولة فلسطينية عمارتها تخر الماء، والسلطة فيها لها وظيفة حراسة وإدامة الأمر الواقع.
في جلسة الشيراتون، قال ناجي إن التهديد الآخر الذي كان قد تلقاه من الشاعر محمود درويش، لم يكن فقط لمجرد الكاريكاتير الذي طال مقامه وأدرجه مع رواد التفريط. هي قصة معروفة، أضاف لها ناجي يومها أن شخصاً ما تبرع بأن نقل لدرويش بأن (ناجي) سمع معلومات يصعب ابتلاعها عن وظيفة خاصة كان ينهض بها درويش أثناء عمله مع الحزب الشيوعي الفلسطيني“راكاح“ وأنه خرج من فلسطين إلى موسكو عام 1972 ليواصلها.
كان تقدير ناجي أن هذه القصة هي التي تفسر لماذا شارك محمود درويش في التأليب حد التهديد بالتصفية، قائلاً لناجي ”أنت مش قدّي“.
يومها قلت لناجي إن هذه التهمة الجائرة لمحمود درويش سمعتُها قبل بضع سنوات من رئيس المخابرات العراقية الدكتور فاضل البرّاك، أوردها باعتبارها تقريراً للمخابرات السوفيتية ”كي جي بي“.
كان يقين ناجي في جلسة ”وداعنا“ أن اغتياله المنتظر في أي لحظة، هو أكثر من مجرد تعبير دموي عن تورّم الذات لدى عرفات أو محمود درويش، إذ طالتهما رسوماته الكاريكاتيرية في مواجع.
إسكات المعارضة أو تصفيتها جزء من توافق ضمني بين إسرائيل وقيادة المنظمة بعد أن استحق موعد الانتقال في القضية الفلسطينية إلى التسوية، ولذلك لم يفاجأ ناجي أن قرار اغتياله كان معروفاً للقيادات الفلسطينية التي لم تشأ أو لم تستطع أن تتدخل.
شيء وحيد لم يكن يخطر ببال ناجي العلي وهو يتحدث عن اغتياله المنتظر باعتباره قراراً قديماً لعرفات حان وقت تنفيذه، وهو أن تقوم المخابرات الإسرائيلية بتنفيذ المهمة من خلال عملائها الذين كانوا يخترقون مكتب الفرقة 17 في لندن.
فقد أظهرت التحقيقات اللاحقة أن ثلاثة على الأقل، ممن خططوا ونفذوا الاغتيال، وهم بشار سمارة، وإسماعيل صوان، وعبد الرحيم مصطفى، كانوا من أجهزة عرفات لكنهم عملاء للاستخبارات الإسرائيلية، وأنهم نفذوا العملية بترتيب لوجستي كامل من طرف الموساد.
شيء واحد كان سيذهل ناجي لو كان يعرفه يوم التقينا قبل أيام من استشهاده، وهو لماذا وكيف وبأي ترتيبات سياسية غامضة نفّذ الموساد رغبة عرفات.
كان الجميع، بمن فيهم صلاح خلف وجورج حبش، يعرفون أن فرقة الاغتيال خرجت تطلب رأس ناجي العلي بأمر من عرفات، ثم يتبين لاحقاً أن الذي نفذ رغبة عرفات هو الموساد.