فلسفة الموت.. الحقيقة المؤكدة والحزن الدائم
بقلم: د. دانييلا القرعان
النشرة الدولية –
انه الموت يا سادة، انه الوداع الأخير من دون عودة، والترحال الذي يأخذ معه كل ذكريات الأهل والأصحاب والأحباب وعبق الطفولة وصخب المراهقة وعنفوان الشباب وتعب الكهولة وخبرات الحياة المتراكمة، انه الشيء الذي ندركه بحواسنا ونعيشه بصدمة وحزن وحنين لمن فارقنا.
لا أحد يفهم الموت سوى انه إرادة الله وقضائه وقدره المكتوب، ولا أحد يستطيع فهمه والتوغل به، ولا كيف خطف من كان بجوارنا قبل برهة يضحك ويمرح ويسهر ويتبادل معنا الأحاديث الطويلة والقصيرة والمفرحة والمضحكة والمحزنة، يخبرنا بأدق تفاصيل حياته وأسراره، ها هو بلمح البصر يرحل عنا أو بالأحرى لم يعد هنا، قد يهدأ الحديث ويصمت الجدار ويتوقف الكلام، لكن يبقى الموت هو الذي يعيدنا الى زمن الذكريات، وزمن من كان جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، الى الطفولة والمراهقة والحياة، حقًا بالموت فقط تنطفئ الأنوار وتصبح الألوان مكتسحة بالسواد الحزين، فبالموت يأتي دور العيون لتقوم بمهمة ذرف الدموع بعد أن تصاب بالألم والوجع، نعم، سنة الحياة، أن تستعيد العيون من جديد ضحكتها رغم ما كان في دواخلها من ألم لا يدركه إلا من عاش تجربة هذا الفراق، أما عضلة القلب في داخلنا، فستنكمش وتضمر بصمت، وتصبح وحيدة، قد تعود بضخ الدم لباقي أعضاء الجسم كالمعتاد لكنها ستبقى حزينة على من رحل الى أن يأتي دورها وتتوقف إلى الأبد، وتنتفض على شكل تنهيدات عميقة تخترق الجسد وتتوغل في أعماق الروح والأوردة، وسبحان الله، في لحظة هي جزء من الثانية، حين نغمض العينين حنينًا لمن خطفه الموت من بيننا وبقى عالقًا معنا، سنتذكر كيف كان يفرح لفرحنا ويحزن لحزننا، سنشعر أن روحه تحيط بنا، لأنها جنود مجندة، سنشعر بها في توهجنا وانتصارنا وفرحنا وانطفائنا وحزننا وخسارتنا، وعندما تغادرنا روحًا غيره، نعم، سنشعر أن روحه تطير من حولنا وتحلق وتطوف فوقنا دون أن تكلمنا وتلمسنا أو تخبرنا بماهية حياة القبر والبرزخ، أو هل التقى بآخرين؟ وهل هم بخير سعداء لأجلنا أم حزينون لحزننا؟ أو هل هو بخير في العالم الآخر؟ كيف يعيش؟ أو هل يحن إلينا كما نحن إليه ؟ وكيف حال البقية؟ نحن لا ندري؛ لأنه الموت يا سادة.
الفقد أو الموت حقيقة فهي سنة الحياة المبكية، لا يمكن نكرانها وإخفائها وتجاوزها ونسيانها، هي فلسفة صعب على العلماء تفسيرها، بالعلم أدركنا كل شيء إلا الموت أو كيف يأتينا بغتة دون مقدمات، تتعدد الأسباب والموت واحد، لذا من أصعب أنواع الموت هو الموت المفاجئ، الذي يخطف من حولنا عزيز بسرعة البرق، ثم موت المرض الذي يشبه الموت المفاجئ، بفارق وحيد انه منحنا برهة وقت لتوديع أحبابنا تحت مسمى نظرة الوداع، وفي جميع حالاته وأسبابه يبقى الموت هو الموت.
يعلمنا الموت أن نتسامح ونتجاوز ونغفر الزلات ونمحو الأخطاء ونتجنب كرهنا لبعضنا البعض، أن ننشر السلام والأمان والاستقرار والرحمة والعطف والحنان والسكينة والطمأنينة والغفران والسعادة بيننا، أن نصل الأرحام ونساعد المحتاج والفقير والجار، أن نتبادل الكلمة الطيبة والاخاء والتعاون، وأن لا ننسى الرفق بالحيوان، فهو مخلوق من مخلوقات الله. بإختصار، ﻏﺪًﺍ ﺳﻨﻜﻮﻥجميعًا مجرد ﺫﻛﺮﻯ ﻓﻘﻂ، فاﻟﻤﻮﺕ ﻻ ﻳﺴﺘﺄﺫﻥ أحد، ولا يشفع لأحد، ولا يميز أحد، ما بين غني وفقير، أبيض وأسود، عربي أو أعجمي، الرحمة لمن فارقنا لجوار ربه، والشفاء لمن هو قيد العلاج، وكم تشتاق ارواحنا وهي عطشة لمن فاروقنا في طفولتنا وصبانا وشبابنا، لا نعلم من المؤكد سيحين دورنا في سباق الموت، وسنلحق دربهم في عالم آخر لا يشبه عالمنا أبدًا…
اشتقنا لكم…