لحظاتٌ تُكشف لأول مرّة عن انفجار مرفأ بيروت.. شهاداتٌ تسردُ مشاهد مروّعة

النشرة الدولية –

لبنان 24 – محمد الجنون –

مهما تعاظمت الأيام وانقلبَ الزمن، يبقى يومُ الرّابع من آب نهاراً مشؤوماً في الذاكرة اللبنانية الصاخبة بالمآسي. حتماً، المشهدُ كلّه تغيّر في ذلك اليوم عام 2020، حينما ضربَ انفجارٌ كارثي مرفأ بيروت، وأزهق أرواح أكثر من 200 شهيد فضلاً عن الجرحى والمعوقين الذين ما زالوا يعانون من أثار تلكَ الجريمة التي قلّ نظيرها على صعيد التّاريخ.

في سياق الأيام العابرة، أصبحت صورة الانفجار المروّع شاخصة في أذهان اللبنانيين، في حين أن إهراءات المرفأ بقيت الشاهد الأكبر على ما جرى قبل عامين. وعلى الرغم من بدء إنهيارها شيئاً فشيئاً، إلا أن تلك الإهراءات ستبقى حاضرة في الوجدان لتؤكّد أن جريمة مثل هذا النوع لن تنقضي بشكل عابر، فالمُطالبة بالحقيقة كبيرة، ولا سكوتَ عنها مهما طال الزّمن.

صحيحٌ أنّ شهادات من عاشَ لحظات الإنفجار كانت عديدة ولا تُحصى، لكنّ الكثير من الأمورِ  الأخرى ما زالت مُخبّأة ولم تنكشِف حتى الآن. هنا، قد يكونُ الكلام حاضراً لدى من عايشَ اللحظات الأصعب في تاريخه، إلا أن الظروف لم تسمح لهُ بعكسِها مباشرة في حديثٍ أو خطاب أو مقابلة هنا أو هناك. حُكماً، سيكونُ السردُ قاسياً، لكن العبرةَ منهُ ترتبطُ ببقائه حاضراً وبازراً مع الزمن كي لا ننسى ما حمله الانفجار من جرائم قاسيّة بحق اللبنانيين.

الجُثث هنا وهناك

في الساعات التي تلت الإنفجار، كان المشهدُ المروّع. داخل المرفأ كان كلّ شيء قاتل، فرائحة الموتِ تنبعثُ من كلّ حدبٍ وصوب. أشلاءٌ هنا، دماءٌ هناك، أما الأصعب والأصعب فارتبط بضياعِ حقيقة ما حصل.

في حديثٍ عبر “لبنان24″، يقولُ خضر (43 عاماً)، إنّ دخوله إلى المرفأ لإتمام عمليات الإنقاذ كمتطوع في الدفاع المدني، جعله يعيشُ صدمة كبيرة، وأضاف: “كنتُ أرى الجثث هنا وهناك، لكنني آثرت الصمود من أجل إنقاذ أي شخصٍ نلقاه، علّه يكونُ حياً وسط غابة الموت القائمة”.

ويُردف: “المشهدُ ليس عادياً أبداً.. الناس عاينت كل شيء خارج المرفأ.. الدمار كبيرٌ نعم، ولكن الدمار الأكبر كان داخل المرفأ. المشهدُ هناك مُبكٍ جداً.. أذكرُ حينما كنا نبحثُ عن الجثث والجرحى أنني رأيتُ سيارات محطّمة في كل مكان.. هرعنا مباشرة للتفتيش بها، فوجدنا أشلاء متطايرة عليها.. كلما كنا نسيرُ قليلاً، كنا نجدُ مشهداً مروعاً”.

وأكمل: “خلال اللحظات التي تلت الانفجار والأيام التي جاءت بعده، كنت أسعى بجهدٍ كبير للبقاء هناك من أجل الإنقاذ، في حين كنت أسعى بقوة للبحث عن شخصٍ من بلدتي.. فأنا أعملُ في المرفأ وأيضاً كان الشهيدُ محمد يعمل هناك أيضاً. كُنا زملاء.. نعيشُ اللحظات معاً ونتقارب في كل شيء.. الصدمةُ كانت كبيرة حينما أفيد بأن مُحّمد كان في عداد المفقودين، وقد أبلغني أحد أقاربه بأنه كان يرسل فيديو للحريق داخل المرفأ قبل الانفجار، ثم انقطع التواصل معه تماماً.. هنا، كانت الصدمة.. أين مُحمد؟ أين اختفى؟ القصّة اشبه بالفيلم!!.. رغم ذلك، كان لدينا أملٌ بالعثور عليه حيّاً ورحنا نستطلعُ المكان زاوية زاوية.. هدفي كان الإسراع بعملية البحث لسبب واحد وهو أنه كان لديّ يقين بأن السرعة يمكن أن تساهم في العثور على أي جريح يمكن إنقاذه فوراً.. بذلك، يمكن أن نمنحه فرصة جديدة للحياة عبر الإنقاذ، ولكن الأعمار تبقى دائماً بيد الله”.

ويضيف خضر: “بعد مرور ساعات وربما يومين على الانفجار، ضاعفنا عمليات البحث عن الشهيد محمد بقوة.. أذكر أنني دخلت عبر المدخل رقم 3 إلى المرفأ، وبدأنا نبحث في المكان.. وجدنا مجموعة من العسكريين هناك، وقيل أن هناك جثة داخل سيارة مهشّمة بقوة.. عندها، قام أحد العسكريين بإدخال يده إلى السيارة ووصل إلى الجثة وقام بسحب هوية كانت موجودة معها، فتبين أنها للشهيد محمد علاء دمج.. هنا، كان المشهد المروع.. أخدتُ الهوية وصورتها وأرسلتها إلى أحد أقرباء الشهيد.. نعم، وجدتُ محمّد داخل سيارتِه ميتاً!! الصدمةُ لا توصف والمشهدُ لا يغيبُ عن خاطري وبالي.. الغصة كبيرة.. أذكر أنه كان ما زال بثيابِ العمل، وربما كان يستريحُ قليلاً قبل لحظة وقوع الإنفجار، في حين أنه كان يصور الحريق وقد تبين ذلك بسبب الفيديو الذي أرسله قبل استشهاده.. المشهدُ قاتل.. رأيتُ من كنت أحادثه ميتاً أمامي.. أيّ صدمة هذه؟ أهو فراق عاديّ للأحبّة؟ لا.. أبداً.. ما حصل لا يمكن أن يُنتسى.. حقاً، المسألةُ لا يمكن أن تنقضي بوقتٍ أو زمن”.

أملٌ بالحياة.. ولكن!

ومن أرجاء المرفأ إلى الإهراءات ومحيطها حكاية أخرى.. المشهدُ هناك لا يُحتمل أيضاً، والصدمة لا يمكن اختصارُها بأيّ زمن أو وقت..

بالقرب من الصوامع الشاهقة المدمّرة، كان البحث يتواصل بقوّة سعياً للعثور على ناجين، لكن الأمورَ كانت تتعقد يوماً بعد يوم، والآمال كانت تنحسرُ شيئاً فشيئاً.. حقاً، الأمر لم يكن يتعلق بالإستسلام، بل كانَ يرتبطُ بهول الفاجعة.. أيّ ركامٍ يمكن انتشاله؟ أيّ صوامع يمكن الغوص تحتها في ظلّ الإمكانيات الضعيفة؟ كل الأمور تداخلت في ما بينها، لكن السعي لم يتوقف، فاستمرّ البحث تلو البحث أملاً بالإنقاذ، لأن الوصية الإلهية كانت حاضرة، ولم تغب عن بالِ أحد.

في حديث عبر “لبنان24″، يقولُ علي (39 عاماً)، وهو كان في عداد فرق الإنقاذ في محيط الإهراءات: “البحثُ لم يتوقف أبداً طيلة فترة عمليات الانقاذ.. كان هناك أملٌ لدينا بإيجاد جرحى أو مصابين من أجل إسعافهم فوراً.. كانت عمليات الحفر تتواصل بوتيرة متصاعدة في حين أن مهمة الإنقاذ خلال فترات الليل كانت صعبة جداً”.

ويردف: “خلال عمليات الإنقاذ في اليوم الثاني بعد الإنفجار، قيل أن هناك سرداباً قد يضم أشخاصاً أحياء.. كذلك، أفيد بأن إشارة اتصالات خليوية قد تم التقاطها من تحت الإهراءات.. هنا، استبشرنا خيراً بقوة، وزدنا من عمليات البحث.. في الوقت نفسه، كانت لدينا خشية من أن نشهد انهياراً للركام لأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تضرر أي شخص تحتها قد يكون على قيد الحياة”.

ويُكمل: “المشهدُ قاسٍ جداً.. طوال عملية البحث كنا نسعى لإيجادِ أي شخص حي، لكن الأمور كانت تتعقد.. كان الخوف يسودُ أوساط من كان في محيط الإهراءات.. المشهدُ قاسٍ جداً لكن العزيمة كانت قوية، والصمودُ كان أكبر”.

ويختم علي بالقول: “لم نكن نريدُ شيئاً إلّا إنقاذ أبناء وطننا.. المصيبة وحّدت الجميع حول هدفٍ واحد، وهو إنقاذ الأرواح.. كُنّا نعمل يداً بيد معاً من دون أي تردد.. أقل ما يمكن قوله هو أن انفجار المرفأ، ورغم خطورته، ساهم في توحيد اللبنانيين حول الإنسانية.. حول القضية.. حول الوطن الذي ما زال ينزف حتى اليوم”.

في الخلاصة، سيبقى انفجار المرفأ حاضراً في ذاكرة اللبنانيين، وستظلّ لحظاتُه شاخصة أمامنا عبر الزمن.. مع ذلك، يبقى الكفاحُ في سبيل الحقيقة كبيراً، فلا انكسار ولا تراجع.. أما ما يُمكن قوله أيضاً هو أن ما حصل في المرفأ جعل الكثيرين يغيّرون الكثير من نواحي حياتهم.. باتوا يرون أن الحياة حقاً عابرة، والموت يخطفنا منها بغفلة.. حقاً بغفلة!!

زر الذهاب إلى الأعلى