الراب من التهميش إلى الشهرة والانتشار الواسع في تونس
بلطي نموذج الفنان العصامي الذي صنع نفسه من رحم المعاناة
النشرة الدولية –
العرب – حنان مبروك –
كلما رفضتها السلطة وسياساتها الثقافية، ورفضها المتمسكون بالأنماط الموسيقية القديمة، كلما انتشرت موسيقى الراب أكثر في المجتمعات العربية، لقربها من المستمع وتحدثها بلسانه، فهي لا تستهل الطرح الفني للمواضيع العاطفية وإنما ترفع شعار حقوق الإنسان وحرياته، وتكسر الصورة النمطية للفنان والمغني.
ولد الراب في تونس أسوة بالحركة العالمية والانتشار الواسع لهذا النمط الموسيقي، فكان فنا مهمشا وفنا للمهمشين، لكنه استطاع بعد عقود من “السرية” ومن التحدي الصارخ للرفض الرسمي أن ينال حريته ويصبح فنا متاحا للجميع، تسمعه كل طبقات المجتمع رغم التزامه التام بمواضيع قد لا تعبّر عن كل الشرائح الاجتماعية ومشكلاتها.
وكانت مجموعة “أولاد بلاد” من أول مجموعات الراب في تونس والتي بدأت مسيرتها سنة 1997 بمجموعة من الأغاني التي تعكس اليومي وقدرته على القضاء على طموحات وأحلام الشباب دون خوف من الرقابة البوليسية المشددة في تلك الفترة.
وحققت الأغاني الموسيقية الشعبية وتحديدا أغاني الراب انتشارا واسعا في تونس بعد ثورة يناير 2011، حيث نجحت في فك القيود التي كبلتها وسجنتها في دائرة الممنوعات، لانتقادها اللاذع للسلطة السياسية وانتهاكها للحقوق والحريات وللظروف الاقتصادية والاجتماعية.
وصرنا خلال العشرية الأخيرة نسمع موسيقى لم نألفها ونرى رؤساء حكومات ومسؤولين سياسيين يواكبون عروضا جماهيرية لفناني الراب، بضحكة صفراء، رغم أن هؤلاء الفنانين لا يتراجعون عن تأدية أغنياتهم الناقمة على السلطة، على أشهر مسارح البلاد.
ويعود الإقبال على أغاني الراب خاصة من فئة الشباب -حيث يشاهدها الملايين على يوتيوب- إلى اقترابها من قضايا الشباب وملامسة همومهم كالبطالة وأحلامهم في الهجرة وغيرها، إضافة إلى اشتباكها مع الوضع السياسي حيث مثلت في مرحلة ما صوت احتجاج فني في البلاد.
اشتباك مع الواقع
يسير فن الراب عكس الأعمال الموسيقية الوترية التي شهدت نكسة كبيرة خلال العشرية الماضية، حيث لجأ أغلب مؤدي هذا النمط الغنائي إلى تكرار التراث ورفع شعار “تهذيبه” مع وجود بعض المحاولات التي قدم أصحابها أغان ناجحة، وكذلك عكس أغاني “المزود”، ذاك النمط الشعبي الذي ظل مهمّشا لسنوات ولا يزال حبيس مظاهر الاحتفال العائلي ولم يمنح بعد صكّ الانفتاح الحر والتام على جماهير المهرجانات، إلا في ما ندر.
ورغم أن هذه الموسيقى تستهوي شرائح مختلفة وحققت صعودا كبيرا في فترة ما بعد الثورة، فإن انتقادات عديدة توجه لها على اعتبار أنها نمط دخيل وكلمات أغانيها تنحدر إلى مستوى من التبسيط المخل الذي يعتمد الألفاظ النابية ويسيء أحيانا إلى الضوابط الأخلاقية المجتمعية.
يعتبر محمد صالح بلطي المعروف باسم “بلطي” من أعمدة موسيقى الراب في تونس، ولكن شهرته لم تأت من فراغ. فمن العاصمة وتحديدا من حي شعبي يدعى “سيدي حسين” بدأ بلطي الراب منذ المراهقة لتستمر التجربة إلى الآن.
ويتميز الراب بأنه أحد فروع ثقافة الهيب هوب الرئيسية. يقوم في الأساس على التحدث وترديد أغنية بقافية معينة، وهو أيضا تسليم القوافي والتلاعب بالألفاظ حتى تتماشى مع القافية دون الالتزام بلحن معين. انتشر في الولايات المتحدة في بداية السبعينات في حي برونكس بولاية نيويورك على أيدي الأميركيين الأفارقة، كما انتشر عالمياً منذ بداية التسعينات.
ويمكن إلقاء الراب بوجود الإيقاع والموسيقى أو دونها أي بما يعرف بالفري ستايل، وبشكل عام فإن صوت المغني أو المغنية ليس هو المعيار إنما نبضات الموسيقى نفسها وكلمات الأغنية.
وفي موسيقى الراب يتحدث المؤدون عادة عن أنفسهم، ويستخدم النوع الموسيقي أحيانا في التعبير عن استيائهم وغضبهم على صعوبات الحياة، لذا فالأغاني يرافقها غالبا التحدث عن قضية شائكة أو قضية مشوشة للمجتمع الذي تنحدر منه أصول الأغنية.
وخلافا لقواعد التسويق الموسيقي العادي، يراهن مغنو الراب والموسيقى الشبابية على يوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي للترويج لأعمالهم وكسب الشهرة، مع ظهور قليل جدا في البرامج التلفزيونية الثقافية.
نموذج ناجح
يتكلم بلطي كما كل فناني الراب بلسان شريحة واسعة من المجتمع، هي في الغالب مهمشة فقيرة، تحقق أحلامها بشق الأنفس، جعلتها صعوبة الحياة تتقفى أثر الوجع والانتهاكات في كل مظاهر الحياة، فتنتفض للدفاع عن الحقوق والحريات عبر سماعها للأغاني ثم حفظها وترديدها.
ويعتبر هذا الفنان، فنان الراب التونسي الوحيد الذي لا يستخدم الألفاظ النابية في أغانيه، وهو ما منحه انتشارا حتى داخ العائلة الواحدة، لكنه يلتزم بالنمط العام لأشعار أغاني الراب، فيحكي عن لوعة فراق الوطن ومشاكل المهاجر غير الشرعي، وعقوق الوالدين والابتعاد الإجباري عن العائلة للبحث عن العمل وضمان مستقبل أفضل، وهو يغني للحبيبة وللوطن وللحياة بجانبها السلبي وتأثيراتها في شخصية الإنسان.
وبشكل عام فإن أبرز مغنيي هذا النوع هم الشعراء الشعبيون وأفراد العصابات والذين تأتي أصولهم من مجتمع تم فيه إجبارهم على الانحراف السلوكي وذلك بسبب قسوة الحياة وظروفها الصعبة. وتجد أن أغانيهم تحكي الكثير من تفاصيل حياتهم وحياة من يشاركونهم المحيط نفسه والبلد نفسه.
ومن أغاني الراب، بإمكان المستمع فهم مسار حياة الفنان منذ ولادته، حتى غناءه أمامه فوق خشبة المسرح أو حتى في الشارع وفي موقع يوتيوب، وبلطي هو الآخر، سرد في بداياته حياته في بعض الأغاني، ثم نوع المواضيع المغناة مع اتساع شريحة مستمعيه.
ولجأ الفنان إلى عالم يوتيوب، العالم الافتراضي الذي يتحرك ضمن حدوده مغنو الراب في تونس، فحتى وإن أفسحت لهم السلطات المجال للغناء وللمشاركة في المهرجانات المحلية، إلا أنها لا زالت تراقبهم وتلاحق بعضهم من حين لآخر خاصة مع ارتباطهم بشبهات استهلاك الحشيش والمخدرات التي تستغلها الأنظمة السياسية ورقة رابحة ضدهم.
عالم يوتيوب أتاح لبلطي أن يكون الفنان التونسي الأول من حيث نسب المشاهدة، ومن خلاله حظي بشهرة واسعة في العالم، وصارت أغانيه رغم كلماته التونسية غير المفهومة تردد عربيا وغربيا.
ابتعد بلطي عن عالم الراب، ليجرب أنماطا موسيقية أخرى ويضيف آلات لا يستخدمها غيره من “الرابورات” التونسيين والعرب، فصارت أغانيه أقرب للمستمع وتجذب شريحة واسعة من العائلات، والأطفال أيضا، مع حفاظها على الشكل العام لفن الراب، من حيث الأداء والكلمات، حيث يرافقه دائما مؤد ثاني على المسرح كل مهمته تتركز في إثارة الجمهور ورفع مستوى حماسه وتكرار بعض الكلمات وترديد أصوات أشبه بالآلات الموسيقية.
ورغم ابتعاده عن الحدود الضيقة لفن الراب، شعاره في ذلك أن التجربة هي المعلّم الأول للفنان وللإنسان عامة، إلا أنه لا ينسى زملاء البدايات، ففي أغلب حفلاته الفنية، يفسح الفنان مجالا لمن شاركوه البدايات المؤلمة لفن الراب في تونس، ومنهم “كافون” المغني الذي قدم له فرصة الصعود على خشبة مسرح قرطاج لمدة نصف ساعة في عرضه الأخير الذي عقد في الدورة السادسة والخمسين من المهرجان.
قبل سنوات، كنت طالبة جامعية، تعرفت ذات يوم على “بلطي”، ذاك الفنان الشاب القادم من عالم فني واجتماعي مجهول بالنسبة إلي وإلى زملائي الطلبة، قدم لنا حفلا في ساحة الجامعة، لم يحضره سوى عدد قليل من محبي موسيقى الراب، يكاد المرء يعدهم على أصابع يديه، فلم يستبشر كثيرون باستمرارية هذا الفنان في عالم الموسيقى، لكنه بعد عقد بأكمله، أكد للجميع أن الراب حتى وإن كان فنا غير محبذ لشريحة واسعة من المجتمع، استطاع من خلال قربه من آلام الشباب وكسره حلقة الصمت وحرية التعبير أن يغير المعادلة الصعبة للموسيقى وضوابطها الأكاديمية التقليدية، وفسح المجال أمام بلطي وآخرين غيره ليخلدوا أسماءهم بأغنيات يمكن تسميتها “ابنة الشعب” والناطقة الرسمية بأسراره ومشاكله وطلباته.