اللغز الإيراني-الإسرائيلي الذي “أنجبته” عملية “الفجر الصادق”
بقلم: فارس خشان

النشرة الدولية –

بدأت عملية “الفجر الصادق” التي أطلقتها الحكومة الإسرائيلية ضد حركة “الجهاد الإسلامي” في غزّة، بصورة مفاجئة، تمامًا كما انتهت، بعد ست وستين ساعة.

وعلى الرغم من فداحة الخسائر البشرية والمادية التي تسبّبت بها هذه العملية، سواء ضد القيادة العسكرية ل”الجهاد الإسلامي” أو ضدّ المدنيين الذين أصبح الموت لديهم “عادة”، إلّا أنّ الأهمية القصوى “أسرتها” الأسئلة التي تركتها وراءها وشكّلت نوعًا من لغز لا بدّ من حلّه، نظرًا لتداعياته الاستراتيجية التي لا تنحصر بالفلسطينيين فقط.

عادة، تنتظر تل أبيب مبرّرًا-ولو واهيًا-لتذهب إلى مواجهة من شأنها أن تشعل حربًا، لكنّها، هذه المرّة، طبّقت قاعدة “الإستباق الوقائي” التي لا تؤسّس نفسها، بالضرورة، على معطيات واقعية ودقيقة.

وإذا ما جرى التدقيق بأدبيات “محور الممانعة” الذي تنتمي إليه حركة “الجهاد الإسلامي”، يظهر أنّه كان على إسرائيل أن تخشى من “الإستباق الوقائي”، لأنّ هذا المحور طالما أوحى بأنّه ينتظرها على…المفرق.

إلّا أنّ ما حصل أنّ “محور الممانعة” بدا “مصدومًا” من السلوك الحربي الإسرائيلي، فسارع إلى الموافقة على اتفاق وقف النار، بتوقيت يلائم إسرائيل التي ادّعت أنّها حققت أهداف العملية العسكرية.

لقد ظهرت حركة “الجهاد الإسلامي” التي تكبّدت خسائر نوعية على مستوى قيادة جناحها العسكري، على الرغم من وجود أمينها العام زياد النخالة، في طهران، حيث كان قد جُهّز له برنامج لقاءات مهم للغاية مع كبار المسؤولين في الدولة كما في “الحرس الثوري”، (ظهرت) وحيدة، فلا “حركة حماس” دخلت في المعركة ولا “حزب الله” الذي سبق أن هدّد أمينه العام حسن نصرالله إسرائيل ب”انفجار إقليمي” حرّك ساكنًا.

من السذاجة الإعتقاد بأنّ إنهاء عملية “الفجر الصادق” سببه الدور المصري الذي وقف وراء التوصّل الى اتفاق، لأنّ القوة الوحيدة القادرة على التحكّم بتنظيمات “محور الممانعة” هي إيران.

وبما أنّ “كلمة الفصل” هي لإيران، فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا رفضت طهران التصعيد العسكري ضدّ إسرائيل التي أعطتها الحجّة اللازمة لذلك، على الرغم من أنّ خطابها، في الأيّام القليلة السابقة لبدء عملية “الفجر الصادق”، كان تصعيديًا جدًّا، لدرجة إحياء شعارات “إبادة إسرائيل”؟

الجواب عن ذلك قد يكون في فيينا، حيث أعيد إحياء المفاوضات حول الاتفاق النووي، وقد يكون، أيضًا، في “الوهن المالي” و “الإرهاق الشعبي” اللذين أصيب بهما “محور الممانعة”، بحيث لا يستطيع مواكبة “الثراء” الصاروخي، وقد يكون، وهنا “بيت القصيد”، في أنّ إيران قرّرت أن تحفظ قوّة أذرعها لتلك اللحظة التي تُصبح هي نفسها في خطر، من دون أن تُعير أيّ أهميّة للمسائل الوطنية الخاصة بكل طرف من الأطراف.

وهذا الإستنتاج الأخير يبني نفسه على المواقف الأخيرة التي صدرت عن قادة “الحرس الثوري الإيراني”، إذ إنّ قائده اللواء حسين سلامي تحدّث عن المائة ألف صاروخ التي يملكها “حزب الله” والجاهزة “لفتح جحيم من نار على الصهاينة”، ربطًا بالتهديدات التي تتعرّض لها بلاده، وكذلك فعل قائد “فيلق القدس” إسماعيل قاآني، عندما “كشف” أنّ “حزب الله” يخطط لإزالة إسرائيل من الوجود “في الوقت المناسب”.

من دون شك إنّ إقدام الحكومة الإسرائيلية الحالية على تنفيذ هذه العملية العسكرية “الوقائية”، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالصراع السياسي الداخلي الذي سوف تُترجم صناديق اقتراع تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل نتائجه، ولكنّ ذلك، على أهميته لا يسمح لهذه الحكومة بدخول مغامرة غير محسوبة، إذ إنّها، لو فقدت السيطرة على مجريات الأمور، لكانت دفعت ثمنًا غاليًا لا تتمنّاه لا الولايات المتحدة الأميركية ولا الإتّحاد الأوروبي ولا الدول التي لا ترتاح إلى انتصار ساحق يمكن أن يُحقّقه بنيامين نتنياهو.

وهذا يعني أنّ الحكومة الإسرائيلية كانت واثقة، إلى حدّ كبير، بقدرتها على التحكّم بظروف هذه العملية، وعليه فإنّ الأسئلة التي لم تجد أجوبة شافية لها بعد هي الآتية: ما هو مصدر هذه الثقة؟ هل هو وليد قنوات سريّة؟ أو هو نتاج تحليل معطيات؟ وإذا كان كذلك، هل تطوّرت قدرات إسرائيل المخابراتية الى المستوى الذي يخوّلها حسم ترقّب “نيات العدو” كما مكّنتها من أن تعرف أين يتواجد كبار قيادات الجناح العسكري في حركة “الجهاد الإسلامي”، قبل توجيه صواريخها “الإغتيالية” نحوهم؟

صحيح أنّ حركة “الجهاد الإسلامي” لا تتمتّع بالقوة التي يتمتّع بها “حزب الله”، ولكن نوعية نظرة إسرائيل الى “حزب الله” لا تختلف أبدًا عن نوعية النظرة الى “الجهاد الإسلامي”، ولهذا سارع البعض في إسرائيل إلى إعطاء عملية “الفجر الصادق” بعدًا “رسوليًا”، إذ اعتُبر بمثابة رسالة واضحة الى “حزب الله” عمومًا وإلى قياداته، خصوصًا.

ولا تخلو التسمية التي أعطتها إسرائيل للعملية من هذا التفسير، إذ إنّها تُذكّر بتلك العملية التي سبق أن أطلق عليها “حزب الله” تسمية “الوعد الصادق”.

وكان لافتًا، في هذا السياق، قول رئيس “معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي” عاموس يادلين، بعد ساعات على الإلتزام بوقف إطلاق النار في غزّة: “نصرالله ينظر ويرى دقة المخابرات الإسرائيلية في معرفة اختباء القادة(…) وعلى حزب الله أن يفكّر مرتين ليستخلص النتائج التي رآها في العملية الأخيرة كرادع له في قضية الحدود البحرية الجنوبية (…) وإسرائيل سوف تتعامل بقوة أكبر مع “حزب الله” من تعاملها مع الجهاد الإسلامي”.

وفي ظاهر الحال، فإنّ إسرائيل اختبرت في عملية “الفجر الصادق” إمكان اعتماد نظرة أخرى الى “حركة حماس”، بحيث كان عدم دخولها، وفق المشتهى، في الرد على استهداف قطاع غزّة، بمثابة الإيذان لخطة التعامل معها على أساس أنّها المرجعية الشرعية لقطاع غزّة، وتاليًا اعتبارها معنية إيجابًا بخطة سبق أن أعرب رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد عن اقتناعه بجدواها، وهي تقوم على “الأمن في مقابل الاقتصاد”، الأمر الذي من شأنه أن ينعكس إيجابًا على وضعية الغزيّين الحياتية والخدماتية والتمويلية.

وفي مطلق الحال، إنّ عملية “الفجر الصادق”، على الرغم من رفع “محور الممانعة” رايات النصر، على قاعدة الصليات الصاروخية التي أطلقتها حركة “الجهاد الإسلامي” على بلدات غلاف غزّة وعلى عمق إسرائيل، فإنّها أوجدت معطيات إستراتيجية جديدة، وفي مقدّمها أنّ إسرائيل باتت جاهزة ليس للرد على النار بالنار بل على فتح النار بأيّ اتّجاه، وحين تجد ذلك مناسبًا.

زر الذهاب إلى الأعلى