بيروت هولدم.. أكثر من روائي ويستحق التحية
بقلم: نجوى بركات

لا أجد حرجا في القول إنّ ميشال كمّون هو من بين السينمائيين اللبنانيين، الأكثر روائيةً. وبذلك أعني مقدرةً أكيدةً على حَبْكِ الموضوع وصوغه بشكل انسيابيّ، ابتكار الشخصيات وتشبيك العلاقات في ما بينها، وضع حواراتٍ تلقائيةٍ وبسيطةٍ تشبه الناطقين بها، خلق عالم بصري حسّي واضح المعالم والملامح… إلخ، خصوصاً “دوزنة” كلّ العناصر بفاعلية لتأتي مضبوطة، لا توحي بافتعال أو مبالغة. هذا بإيجاز ما يُظهره فيلمُه الروائي الثاني، المعروض حالياً في الصالات اللبنانية، “بيروت هولدم” الذي يدوم أكثر من ساعتين، ويجمع باقة من أفضل الممثلين اللبنانيين، إلى جانب الممثل الفلسطيني، صالح بكري (زيكو)، الذي يؤدّي الدور الرئيس ومن حوله تتمحور بقية الأدوار.

بعد غياب سنوات، يرجع زيكو الأربعينيّ إلى عائلته وأصدقائه، وإذ يتخيّل المُشاهِد أنّه عائدٌ “آخر” من الغربة إلى البلاد، طالما أنّه موضوع أثير ومستهلك في السينما اللبنانية، يُفاجأ أنّه عائد من السجن (يسمّيه أستراليا) مثقلاً بمشاعر الذنب حيال أخيه الصغير الذي قضى في سباق دراجات نارية خلال غيابه، وحيال والِدَيْن هرميْن مكسوريْن، يلومانه على ما آلت إليه أحوال العائلة. يتّجه زيكو إلى المقهى القريب، حيث ينتظره أصدقاؤه، جورج (فادي أبي سمرا) صاحب مرأب تصليح سيارات، وربيع (عصام بوخالد) الجوكي الذي يركب أحصنة السباق ويرعاها، وفادي (زياد صعيبي) الذي يعمل في بيع السيارات، ليستأنفوا معا علاقة يتبيّن قِدَمُها من كلامهم القليل ومزاحهم وتعليقاتهم بشأن الزوجات والحبيبات والأعمال.

يسعى زيكو إلى استعادة علاقة قديمة مع خطيبته كارول، أستاذة الموسيقى التي يئست من انتظاره إثر دخوله السجن خمس مرات، فتقرّر السفر إلى الدوحة. يسعى إلى إيجاد عمل وترتيب حياته على أساس جديد، إلّا أنّ مرض والده ودخوله المستشفى يسبقانه ويضطرّانه للعودة إلى أسلوب حياته القديم، وتنفيذ “ضرب” احتيال بمساعدة الأصدقاء، للحصول على مبلغ من المال يمكّنه من دفع ما عليه لإخراج أبيه، ولاحقاً لفتح محل رهانات على سباقات الخيل التي تجرى في بيروت.

هي دائماً قلّة المال، أو قلّة الحظ كما يسمّيها زيكو، فأنت إما تُخلق محظوظاً، أي ثريّا لا تحتاج بذل مجهود، أو تولد بائساً فتبقى تكافح وتجاهد وتلهث لإيجاد مكانٍ لك تحت الشمس. زيكو من النوع الثاني، يحتال ويُحتال عليه، ينهب ويهب، يقسو ويحنو، يتعلّق ويتخلّى. إنّه من النوع المراهِن، أي الخاسر بامتياز، وكذلك هم الذين يُحيطون به في ذلك الحيّ الشعبيّ من تلك المدينة المراهِنة والخاسرة كأبطالها، التي ترفض التراجع أو الاستسلام. أجل، إنّها المقامَرة وسيلة للعيش، سبيلاً للنجاة من تلك التفجيرات التي تحصد الأرواح كلّ يوم ومن العتمة التي تحاصر قلب المدينة… المقامَرة بالمال وبالحياة، مع انعدام الخيارات وإزاء ظلم الواقع ولاعدالة الحياة.

لربما يتساءل مُشاهِدُ الفيلم الذي يُعرض متأخِّراً سنواتٍ عن تاريخ تصويره وإنهائه، أي قبل ثورة 17 تشرين (أكتوبر 2019) وانتشار وباء كوفيد وانفجار 4 آب (أغسطس 2020)، وبعد ما آلت إليه الأحوالُ في لبنان من تدهور وانهيار وخراب، يتساءل إن كانت مشاهدتُه قبل حدوث هذا كلّه ستغيّر شيئاً في نظرته إليه. لكن، لا بدّ أن تأتي الإجابةُ نفياً، إذ لا بدّ للمُشاهد أن يقرأ في ما يدور تحت عينيه وبين سطوره، عِظَمَ الآتي وحتمية الانفجار، ذلك أنّ “ثمّة ما هو عفن في مملكة الدنمارك” (شكسبير)، وثمّة ما لا يستوي ويستقيم في سُبُل عيشٍ ومَسَالِك وَعِرة كالتي يفرضها الانتماء إلى لبنان.

“بيروت هولدم” فيلم سينمائي يستحقّ التحيّة. أداء ممثليه الكثر ممتازٌ لا يُستثنى منهم أحد، وهو ممّا يُحسب لكمّون، كما يُحسب له السيناريو الجيّد الذي ينبغي أن يذكّر بأهمية وجود نصّ سينمائي ذكيّ، متماسك، ثريّ بشخصياته وحواراته وأحداثه، يسبق عمليةَ الإخراج ويدعّمها كي تأتي النتيجة جميلة كما هي الحال في “بيروت هولدم” الجميل.

زر الذهاب إلى الأعلى