ملاحظات على الجولة العسكرية الأخيرة على غزة
بقلم: د.سنية الحسيني
النشرة الدولية –
ليس هناك من يعتاد الموت والقتل والدمار، رغم أن غزة باتت مكاناً للموت والدمار الموجه عن بعد منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية، أي منذ أكثر من عقدين من الزمان، وخصوصاً بعد سيطرة حركة حماس على غزة عام ٢٠٠٦. فليس هناك معركة فعلية أو حقيقية يخوضها الفلسطينيون العزل المحاصرون في غزة، وإنما هو قرار بموتهم يأتي من قبل إسرائيل لإرهابهم وإجبارهم على الرضوخ، في ظل عالم يقف متآمراً أو متفرجاً. وتتحكم إسرائيل بحياة الفلسطينيين ومصيرهم ومستقبلهم، في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتستخدم أساليب مختلفة لإجبارهم، لتبقي سيطرتها الفعلية على فلسطين، لتستكمل تحقيق أهدافها في جانبَي الوطن المحتل على المدى البعيد. ولا تخفي إسرائيل سياستها تجاه غزة منذ سيطرة حركة حماس عليها، إذ تقبل بوجود جماعات مسلحة عسكرية فيها، على رأسها حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، في سبيل تقويض وحدة الكلمة والصف الفلسطيني، والحفاظ على حالة الانقسام، التي تضعف مكانة السلطة الفلسطينية سياسياً، لاستخدام ذلك ذريعة لمنع فرص الوصول إلى حل سياسي مع الفلسطينيين. ورغم قبول إسرائيل بسيطرة حركة حماس المسلحة على غزة، الا أنها تشترط الهدوء، أي تحجيم المقاومة، وتفرض لتحقيق ذلك على غزة حصاراً منذ أكثر من عقد ونصف، وخاضت أكثر من جولة قتال دموية، كانت آخرها جولة الأيام الثلاثة الأخيرة قبل أيام، ودفعت غزة في سبيل تحقيق إسرائيل لذلك الشرط فقراً وتخلفاً وبطالةً تُعد من أعلى المعدلات في العالم نتيجة للحصار، وخسارة لأكثر من أربعة آلاف مواطن لحياتهم، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الجرحى والمعاقين والمشوهين، معظمهم من المدنيين، نتيجة لاعتداءات إسرائيل التي لا تأبه بالطبع لخسائر الفلسطينيين، وإنما تستخدم معاناتهم لتحقيق أهدافها المتفق عليها من قبل تياراتها وأحزابها المختلفة، والتي قد تختلف فيما بينها فقط في أسلوب أو طرق تحقيقها، ومن هنا نبدأ بوضع عدد من الملاحظات على هذه الحرب.
تعاملت الحكومة الإسرائيلية الحالية من خلال هذه المعركة مع أرواح الفلسطينيين ودمائهم باستهتار مستفز، بعد أن جعلتها قرباناً لدعايتها الانتخابية في الانتخابات القادمة. فقد اعتبر عدد من المحللين الإسرائيليين أن قضية الأمن تعد نقطة ضعف تعاني منها حكومة لابيد الحالية، وهو ما استوجب وضع الحكومة الحالية لخطة تحسن من خلالها لوضعها الانتخابي. جاءت جولة القتال الأخيرة يوم الجمعة الماضي بمبادرة إسرائيلية، رداً على تهديد كلامي من قبل حركة الجهاد، بعد اعتقال بسام السعدي أحد قياديي الحركة في الضفة الغربية بشكل مهين يوم الاثنين من الأسبوع الماضي، تحركت في أعقابها إسرائيل باتخاذ اجراءات أمنية مشددة على طول الحدود مع غزة. ورغم تدخل مصر للحد من التوتر، وحصولها على وعود من حركة الجهاد بتجميد رد مباشر وفوري. قامت إسرائيل باستهداف تيسير الجعبري، بعد أن فشلت محاولاتها لاستفزاز حركة الجهاد كي تبدأ المعركة. أظهر عدد من استطلاعات الرأي التي جاءت بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار قبل أيام حصول حزب لابيد على مقاعد إضافية وتزايد شعبيته، وتراجع شعبية نتنياهو وعدد مقاعد كتلته، مقارنة مع الفترة التي سبقت جولة القتال الأخيرة على غزة. ويبدو أن إسرائيل لم تكن معنية باستمرار المعركة وإطالة أمدها، فقد أعلن مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر يوم الإثنين الماضي بأن العملية العسكرية في غزة حققت أهدافها، وذلك في سبيل الحفاظ على إنجازاتها، بعدم دخول حركة حماس إليها، وهو أمر يبقى مرهوناً بمدى تطور أحداث المعركة.
نجحت إسرائيل بتطوير قوة الردع الصاروخي لمواجهة صواريخ غزة، في حين عملت على تقليص القدرة الهجومية الصاروخية الفلسطينية من خلال إحكام الحصار في البداية ثم بعد ذلك من خلال تطوير أنظمة التتبع والرصد والمتابعة. وعكست تفاصيل هذه المعركة هذه الحقيقة بوضوح، فبينما كان الوصول إلى الأهداف الفلسطينية سهلاً يسيراً في هذه المعركة، وكانت الصواريخ الفلسطينية محدودة التأثير، أعلن جيش الاحتلال عن نجاح نظام القبة الحديدية للدفاع الصاروخي في تحقيق تطور جديد في أدائها، مقارنة بجولات القتال السابقة. وفي زيارة جو بايدن الأخيرة، تعهدت الإدارة الأميركية الحالية بدعم تطوير المشروع الصاروخي “الشعاع الحديدي”، وهو نظام متطور يعمل بالليزر لإسقاط الصواريخ، إلى جانب نظام القبة الحديدية، ليزيد من فعاليتها، والذي قد يغير مستقبلاً من قواعد اللعبة.
وجهت إسرائيل من خلال الجولة القتالية صفعة قاسية للفلسطينيين، فتم الإعلان يوم الإثنين الماضي عن التوصل لهدنة بوساطة مصر التي أكدت على أنها ستعمل على الافراج عن الأسيرين بسام السعدي وخليل عواودة المضرب عن الطعام منذ أكثر من ١٠٠ يوم، وهو ما أعاد التأكيد عليه الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين زياد النخالة، بينما أكدت إسرائيل على أنها لم تلتزم بذلك.
عكست جولة الحرب الأخيرة سياسة إسرائيل للتمييز في تعاملها بين حركة حماس وحركة الجهاد، وهي السياسة التي بدأتها إسرائيل منذ العام ٢٠١٩، لخلق الفتنة والتصادم بين الحركتين، وتشبه إلى حد كبير تلك السياسة التي انتهجتها من قبل للتمييز والفصل بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس. بدأت هذه السياسة الإسرائيلية عندما استهدفت غارات الاحتلال بهاء أبو العطا قائد لواء الشمال للحركة في غزة في العام ٢٠١٩، الذي حل محله بعد ذلك تيسير الجعبري. لم تتدخل حركة حماس في المعركة التي جاءت في اعقاب اغتيال أبو العطا، بسبب العلاقة المضطربة بين الحركتين في حينه. ورغم تطور العلاقة بينهما بشكل إيجابي واضح بعد معركة العام الماضي، بقيت حركة الجهاد وحدها في هذه المعركة. ورغم إعلان الحركتين، بعد انتهاء القتال الأخير، بأنهما لن يسمحا لإسرائيل بخلق خلاف بينهما، الا أن هذه المعركة أثبتت أن اسرائيل تعمل على تثبيت سياسة الفصل بين الحركتين في سبيل تحقيق أهدافها.
بدأت سياسة إسرائيل بتحضير حركة حماس كطرف يمكن التفاهم معه لتحقيق الهدوء في غزة عندما سمحت في عهد نتنياهو بمرور الدعم المالي القطري إلى غزة، ودعمت بقوة تمركز المصريين كوسطاء، كما سمحت ببدء الحوار مع الحركة حول إعادة الإعمار والبناء الاقتصادي والمدني للقطاع. وبعد مرور اكثر من عام على معركة العام الماضي، والتي ألحقت أضراراً اقتصادية كبيرة بغزة، استغلت إسرائيل ذلك لتدشين مشروع أطلق عليه “برنامج مدني موسع” لتحسين الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في غزة. وطالما سعت حركة حماس خلال سنوات حكمها، لتحقيق مثل هذا الاختراق، والذي يعني تلقائياً تطور مكانتها وشرعيتها السياسية إقليمياً ودولياً، والذي عبرت عنه صراحة مع نهاية كل معركة مع الاحتلال، فجميع الجولات العسكرية انتهت بحصول إسرائيل على الهدوء مقابل تسهيلات لتخفيف الحصار. وخفضت إسرائيل خلال العام الماضي القيود المفروضة على مجموعة متنوعة من مواد البناء المصدرة إلى غزة، وضاعفت استيراد وتصدير البضائع، ومنحت آلاف العمال من القطاع تصاريح للعمل في إسرائيل، وسمحت بالعمل في العديد من مشاريع البنى التحتية المخطط لها منذ سنوات لتحسين أوضاع المدينة، كمحطة تحلية المياه ومرافق معالجة مياه الصرف الصحي وزيادة توليد الكهرباء، الا أنها أبقت خطة تزويد غزة بالغاز مرتبطة بصفقة تبادل الأسرى المستعصية حتى الآن.
اعتبر مراقبون إسرائيليون أن الفترة التي جاءت بعد معركة العام الماضي جعلت غزة أكثر هدوءاً مقارنة بالعقدين الماضيين. واعتبرت صحيفة “جيروزاليم بوست” أن حركة حماس خلال هذه المعركة أظهرت رغبتها في البقاء في السلطة كلاعب رئيس، خصوصاً في ظل تعامل الوسطاء من المصريين والقطريين والأمم المتحدة مع قادة حماس كحكام لغزة. ولوحت إسرائيل بالحفاظ على هذه المعادلة قائمة خلال الحرب وبعدها وهو ما مارسته بخصوص المعابر والوقود. في المقابل، وعلى الرغم من أن حركة الجهاد الإسلامي حركة إسلامية، تقترب أيديولوجياً من حركة حماس، الا أنها لا تسعى للوصول للسلطة، وترفض خوض الانتخابات، ما يجعلها اقل عرضة للمساومات السياسية، كما أنها تمتلك حضوراً ومكانة مهمة في الضفة الغربية، خصوصاً في مدينة جنين. إن ذلك يستشرف سياسة إسرائيلية لن تكتفي بهذه الجولة، بل على العكس ستعتبرها مقدمة لجولات قادمة، بعد أن بدأت بترسيخ قواعد معينة، تقوم على الفصل بين حركة حماس والجهاد.
تعمل إسرائيل على قطع الصلة بين الضفة وغزة، سياسياً بدعم الانقسام، وميدانياً بفصل الجبهات المختلفة، والآن بمحاولة الفصل بين حركات المقاومة، بعد أن واجهت أصعب محنة عسكرية وسياسة باعتراف قادتها خلال معركة عام ٢٠٢١، والتي توحدت خلالها الساحات الفلسطينية معاً لمواجهتها، فشكّل النضال الفلسطيني في حينه أجمل تجلياته بالوحدة بين فصائله وساحاته. وتدرك إسرائيل خطورة الانفتاح على حركة حماس، لأنها في الأساس حركة إسلامية مقاوِمة، وطالما عملت على تطوير قدراتها العسكرية، الأمر الذي يفسر إبقاء غزة تحت الحصار حتى الآن، رغم الانفتاح الذي تحاول من خلاله إسرائيل تغيير المعادلات، والذي يحتاج لتفاهم والتزام كامل وطويل المدى من قبل حركة حماس لخلق مقاربة آمنة ومضمونة لإسرائيل، شبيه باتفاقها مع منظمة التحرير الفلسطينية مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
اليوم على الفلسطينيين أن يقرروا، إما أن يقبلوا بشروط الاحتلال، والتي تمنحهم مقابل الهدوء، والقضاء على المقاومة، سواء في غزة أو في الضفة الغربية، وضعاً اقتصادياً وحياتياً مقبولاً إلى حين، في ظل بقاء الاحتلال وتحكمه بمفاصل حياتهم، أو اتخاذ قرار جماعي ومتفق عليه، للتصدي للاحتلال ومخططاته بعيدة المدى ضد وجودهم ومستقبل قضيتهم.