هنا “كوع الكحالة” والتاريخ والجغرافيا والحقيقة
بقلم: نوال نصر

المغدور فادي بجاني (أبو يوسف) يوارى اليوم في الثرى

النشرة الدولية –

نداء الوطن –

إستيقظنا على خبر قتل الحنتوش (الياس الحصروني) في عين إبل، وغفونا على خبر قتل أبو يوسف (فادي بجاني) في الكحالة. وهناك من لا يزال يسأل: لماذا كل هذا الغمّ والعبوس اللذين يسكنان القلوب والوجوه؟ تتوالى الأحداث التي تنسينا أحداثاً. في كل مرّة نقسم اليمين: لن ننسى… نعود وننسى. نقلب الصفحة مرددين: النسيان شكل من أشكال الحرية. هذا ما نظنه. هذا ما نحاول أن نتظاهر به. لكن، في الحقيقة نحن نموت – مع كل موت – بالتدريج. قطعة وراء قطعة. على مهل. على نار خافتة…. نار تظلّ تستعر ونحن نظلّ ننزف! في اليومين الماضيين، في آب اللهاب، تكرر موتنا البطيء مرتين جديدتين، حيث ضبط في منطقتين – بفارق يومين – قتل رجلين بالجرم المشهود. والمتهم: واحد.

«لا، مش ماشي الحال». لا يمكن أن نضع رؤوسنا في التراب ونقول: مات الياس وفادي قضاءً وقدراً. لم يمت الرجلان على فراشيهما. وبعدين؟ ماذا عن آخرة الموت المجاني الكثير؟ قُتل الحنتوش والتحقيق قيل جارٍ. لا نصدق. لم نعد نصدق. لكن، فلنتركهم يحاولون ويلهون. ماذا عن قتل أبو يوسف؟ أليس فاقعاً كما الشمس؟ مرّت ليلتان على موته. أكثر من 36 ساعة مرّت. والقتلة معروفون. فهل ننتظر على قارعة الطريق تحقيقاً آخر هشاً ينتهي الى نسيانٍ فإقفال.

البارحة، في النهار، تبدل المشهد المسائي في الكحالة ووحدها الوجوه بقيت سوداء والعيون حمراء. هنا كوع الكحاله. شاحنات كثيرة تروح وتجيء. وصحافيون وإعلاميون يقفون عند درج كنيسة مار مطانيوس البدواني الملاصق لدرج منزل أبو يوسف. نسمعهم يرسلون رسائل صحافية تتكلم عن الحزن العارم والسياسيين الذين يؤدون واجب العزاء وبيانات الإستنكار التي تتكرر نفسها، نسخة طبق الأصل، مثل الببغاء.

بيت الكتائب عند المستديرة، قبالة كوع الكحالة مباشرة. الكنيسة قبالة الصليب الكبير الذي شهد على كل الحادثة، بتفاصيلها، بارتكاباتها، بمآسيها. نحرص ونحن نمشي كي لا تطأ أقدامنا الدم الأحمر القاني الذي انهمر من جسم أبو يوسف في تلك اللحظات القاتمة السوداء. رائحة الدم ما زالت قوية. عناصر بلدية الكحالة يشاركون في وضع الشرائط البيضاء وتعليق الصور. صورتان كبيرتان وصلتا. وصورتان بحجمهما ستصلان بعد قليل. وفي كلِها يظهر المغدور ممسكا ببندقية إستخدمها ذات يوم دفاعاً عن أرضٍ ووجود. واحدة من الصور ذيلت بعبارة: «شهيد الغدر… أبو الموت». ننظر الى وجه أبو يوسف. نستعيد وجوه من سبقوه: لقمان سليم، رمزي عيراني، جو بجاني، الياس الحصروني… فنتذكر مقولة: إذا غدرك طرف مرّة فهذا ذنبه أما إذا غدرك مرتين فهذا ذنبك انت.

تصوير رمزي الحاج

تصوير رمزي الحاج

السكوت من ذهب

كاهن كنيسة مارمطانيوس البدواني الأب فادي صادر يتكلم مع أولاد الرعية. يحاول أن يهدئ من روعهم رافضاً أي كلام آخر «فالسكوت في حالة الكحالة من ذهب». هو يرفض الكلام ربما لأن الحقيقة – برأيه – تظهر مع زلات اللسان. نتركه لحالِهِ. وننظر الى الثكالى في الكنيسة، الى زوجة المغدور وابنتيه. نراهنّ مذهولات لا يستوعبن حتى اللحظة ما حصل. سيزار أبو خليل وصل مع مرافقين. أدى واجب التعزية وجلس. جو إيلي حبيقه وصل وجلس بين المعزين. جينا إيلي حبيقه تحاول بلسمة جراح الزوجة المفجوعة. فادي بجاني كان رفيق إيلي حبيقه واستمرّ رافعاً صورته في قلبه وداره.

سامي ونديم الجميل وصلا أيضا وعقدا في بيت الكتائب إجتماعاً عاجلاً. صورة جثة المغدور يتم تناقلها عبر الواتسابات. ثمة رصاصة وجهت مباشرة الى عنقه. تقصّد من قتلَه… قتْله. ثلاثة شبان في عمر المراهقة يخبرون ما رأوه لأول مرة في حياتهم. رأوا الموت بعيونهم وهم يكررون بصوتٍ يرتجف: كانوا كثراً. اربعة جيبات عسكرية أحكم من فيها الإنتشار، بعدما سقطت الشاحنة المحملة بالسلاح. هو سلاح الحزب الأصفر مرّ في المكان وحاولوا رفع الشاحنة لكن رأسها إنفصل عن جسمها. وبان ما فيها. يصمت الشبان. ينظرون في عيون بعضهم البعض ويقولون بصوت واحد: مستقبلنا مجهول. الدولة تسترت على السلاح وعلى من رفعوا بنادقهم في وجه الأهالي ورشوا رصاصاتهم في كل اتجاه وفعلوا ما فعلوه وغادروا وكأن شيئا لم يكن. أما السلاح فنقل – بحسب بيان مؤسسة الجيش – الى ثكنات. فأيّ ثكنات هذه التي نقل إليها السلاح؟ وهل من موقوف؟ هل من مسؤول؟ يا حرام على لبنان واللبنانيين.

تصوير رمزي الحاج

تصوير رمزي الحاج

قتيل هنا وشهيد هناك

الشاحنة للحزب، للحزب الأصفر، لكنه في أول تعليق قال: لا نعرف ما في داخلها! معلومة أقبح من ذنب. أحمد علي قصاص، من حزب الله، قتل في المكان. قتل على أيدي أهالي الكحالة فسمي في المقلب الآخر من الوطن: شهيداً. وقيل عنه: إنه أول الواصلين في مسيرة الاربعين. هو هناك شهيد وهو هنا قاتل قُتل. تسميتان لحالة واحدة في بلد واحد. فهل يفترض أن يقفل حادث من هذا النوع على مجهول؟ هو حادث كل ما فيه واضح كما الشمس. فهل تصحّ تسمية القاتل شهيداً؟ فلنقل الأمور كما هي ولو لمرةٍ واحدة. نصف الوطن غير نصفه الآخر. نصف الوطن يرفض أي سلاح غير السلاح الشرعي. أما أصحاب هذا النوع من السلاح فيسارعون الى إتهام من يقول: ما بدنا سلاح بلبنان إلا سلاح الجيش اللبناني، بالعميل! العمالة أسهل النعوت التي يستلها من إعتادوا على رفع الأصبع والقول: نحن الآمرون الناهون. القصة كبرت كثيراً. وقصّة أن هناك حزباً يحمي المسيحيين باتت هرطقة. فالمسيحيون لا يريدون حماية أحد. أيام الذمية إنتهت. إنهم لا يريدون إلا الدولة ولا أحد، لا احد أبداً، سواها. فهل هذا كثير؟ قريب العائلة يتحدث عما قرأه من المقربين من الحزب الأصفر «نحنا عنا رجال بيحموا جرس الكنيسة بس إنتو خليكن على جنب». كلام كما الرصاص ينخر.

كوع الكحاله هو اليوم كل الحكاية. ولمن لا يعرف، كوع الكحالة حكاية نضال في ذاته، هو عين الرمانة أخرى، هو حصرمة في عيون كل من جربوا الإحتلال الواقعي أو الفكري. هو كوع الكحالة، البلدة المحاذية للحدث، والحدث محاذية للضاحية. وهناك، في الضاحية ناس يحاولون – باسم المقاومة – الإستيلاء على كل البلد غير عارفين أن أبو يوسف كان مقاوماً والحنتوش كان أيضا مقاوماً.

أولاد الكحالة يقدمون اليوم – كما البارحة – التعازي. فهل أيام التعازي ستساهم في التهدئة والنسيان؟ جو بجاني نكاد ننساه. عائلته ملّت من إنتظار تحقيق هش معلّق وغادرت. وعائلة فادي بجاني ستنسى أيضا. النسيان آفة. إنه يجعلنا مصيدة دائمة. إنه يجعلنا نسمح بتكرار التجربة مرات. «لا، لا أحد يبحث عن الفتنة، هذا ما قاله إبن عمّ المغدور ابو يوسف، لكن لن ننسى هذه المرة. ومن يراهن على العكس لا يعرف أولاد الكحالة».

تصوير رمزي الحاج

اليوم يوارى في الثرى

اليوم سيوارى فادي بجاني في الثرى. الذهول يستمرّ كبيراً. الدولة في خبر كان. السلاح الذي مرّ في المكان قد يكون وصل الى هدفه، الى الضاحية، من يدري. فهل هكذا تبنى الأوطان؟ أحد عناصر «الحزب» دوّن: «كتير شغلات ما بتعرفوها عنا يا أهل الكحاله. لا تعلمون أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة».

لغة الإستقواء مستمرة. نحن أمام مشهد لا نحسد أبداً عليه. هنا مغدور سيدفن اليوم في الكحالة. وهناك قتيل يقول البعض عنه: حامي كنائس المسيحيين في معلولا وصيدنايا. رهيبٌ هذا النوع من الكلام المتكرر. النظارات السوداء تغطي كثيراً من عيون «الكحاليين». الرجال يقفون حلقات ويحللون. النساء لبسن الاسود على عجل وأتين لتقديم واجب العزاء. بالأمس القريب، قبل أقل من يومين، كان أبو يوسف يفكر في الغد وما بعده. لكن، بأمرٍ مِن مَن يظنون أنفسهم الأقوى، سال دمه حتى الموت. ننظر الى بقعة الدم. نعود وننظر الى الكنيسة المطلة على المكان ونقرأ صلاة للقديس مارمطانيوس معلقة: يا شهيداً وتلميذاً محباً إجعل سكان هذا البلد تحت كنف حمايتك القديرة. هذه هي الحماية الوحيدة، حماية السماء، التي يريدها مسيحيو هذه الأرض.

أول البارحة كان يوماً لا يُشبه سواه في الكحاله… واليوم يوم آخر.

تصوير رمزي الحاج

 

Back to top button