نصير شمة يتغنى بالوطن والسلام مستحضرا أساطير وثقافات العالم
"لا يليق بك الحزن".. رسالة سلام موسيقية تأمل في غد أجمل
النشرة الدولية –
العرب – حنان مبروك –
يحمل الفنان العراقي نصير شمّة العود “سلاحا فنيا” يجمع حوله عازفين مهرة من العالم، يوصلون جميعهم رسائل عن السلام والأمل ومحبة الأوطان وتقبل الآخر بكل اختلافاته، ويعيدون محبي الموسيقى إلى أساطير وحكايات خالدة في التاريخ الإنساني، ألهمت العديد من الفنانين وهي تلهمهم أيضا لتأليف موسيقى قادرة على مخاطبة الإنسان وقيمه في كل مكان وزمان.
أحبّ الفنان العراقي نصير شمّة العود، ونذر حياته ليصبح واحدا من أهم عازفي هذه الآلة الوترية – شرقية الهوية وأكثر الموسيقيين العرب اشتغالا على التجديد فيها؛ فهو يعزف على العود لكنه يشرف أيضا على صناعته، ويحافظ على بعض “أخواته” -من الآلات الوترية الأخرى- من الانقراض أو فقدان أصالتها.
واستطاع الفنان خلال عقود من العمل والمثابرة والرفض وحتى الملاحقة، أن يصوغ لنفسه رؤية موسيقية فريدة تتميز بأسلوب عزف متطور ومختلف، استعرض جزءا صغيرا منه في حفل قدمه بمهرجان قرطاج الدولي للموسيقى رفقة مجموعة “بناة السلام”.
“سلامنا لا يأتي بعد حرب كسلام الآخرين”، هكذا يختصر الفنان العراقي رسالة السلام التي يرسلها إلى كل العالم، فالمجموعة شعارها السلام لكل الأرض، ولا سلام لأحد على حساب آخر، فالأرض تسع الجميع ولا يحق لأحد التحكم في مصير الآخر.
ونصير شمّة ليس غريبا عن تونس؛ فقد عاش فيها سنوات ودق أوتار عوده في مهرجاناتها وتظاهراتها الفنية، لكنه يعزف للمرة الأولى صحبة مجموعة “بناة السلام” التي أسسها وتجمع ثلة من خيرة الموسيقيين، بل يمكن اعتبارهم مجانين في عشقهم للموسيقى، وبعضهم لا يقل شهرة عن شمة. لكن الصداقة الفنية والإنسانية والرؤية الواحدة والإيمان بالمشروع الموسيقي ذاته…، كل ذلك جمعهم منذ 2005 ليجوبوا العالم في رحلة سلام ومحبة.
وتضم “بناة السلام” عازف القانون التركي آيتاش دوغان وعازف الدف الكردستاني حسين زهاوي وعازف الساكسوفون الإسباني غوتاما دل بينو وعازف السيتار الباكستاني أشرف شريف خان وعازفة الكمان الأميركية كارن بريغز آكا وعازف التار الإيراني علي قمصري وعازف القيتار كارلوس بانانا من إسبانيا ومواطنه عازف القيتار باص مانويل سيرا، ويصحبهم من تونس عازف الإيقاعات لطفي صوة وعازف البيانو سامي بن سعيد.
ولكل عازف طقوسه في عشق الموسيقى، وطقوسه في التأليف الموسيقي المتأثر بخلفيته الثقافية والاجتماعية وما تشبع به عقله من أساطير عن أجداده وعن صورة “المدينة الفاضلة” التي ربما وجدت في الماضي ويحلمون بتكرارها في المستقبل، والدفاع عنها في الحاضر المليء بالحروب والنزاعات والمآسي الإنسانية.
جميعهم من بلدان قد لا تجتمع يوما واحدا على رأي سياسي أو حتى ثقافي مشترك، فرقتهم السياسة، كما فرقت بلدانهم، لكن الفن جمعهم وأعاد لهم رشدهم ووعيهم بأن المصير الإنساني يظل في الأخير مصيرا مشتركا، والمعاناة لم تعد فردية بفعل العولمة والانفتاح الثقافي وإنما صارت معاناة جماعية، لا مفر منها إلا بالتفكير في الخلاص الجماعي.
وقدم شمّة مع المجموعة عروضا عدة، منها عروض في دور الأوبرا في القاهرة ومسقط وأبوظبي، وخرجت المجموعة بعد هذه العروض وبعد سنوات من توطيد معرفتها بعناصرها واتحادها مع جمهورها من الأكاديميين وطلبة المعاهد الموسيقية وحتى متذوقي الموسيقى ممن لا يفقهون شيئا في الجانب الفني الأكاديمي، خرجت بأفكار جديدة منها تقديم عرض “أمنا الأرض” من أجل سلامة الكوكب، وتوجيه سياستها نحو الالتزام بقضايا متنوعة تفرضها التغيرات المتسارعة في العالم، سواء تلك المعنية بالسياسة أو بالثقافة والمجتمع أو حتى بالمناخ.
يعزف نصير شمّة على العود بطريقة تجمع بين الأساليب التقليدية والتراكيب الحديثة الخاصة به. وتتسم موسيقاه بالشجن، وهو يرفض المزج بين الموسيقى والشعر باعتبار أن القصائد تحد من انتشار الألحان، وهو ما يتعارض مع مشروعه الموسيقي ورسالته الأولى التي يصر فيها على عولمة العود حتى يدرّس في كل جامعات العالم، ولمَ لا تدرس أيضا ألحانه المقتبسة من الموسيقى العربية والشرقية؟
وأول ما يلاحظه مواكب مهرجان قرطاج الدولي أن جمهور نصير شمّة منضبط أكثر من جمهور السهرات الأخرى، فهو يلتزم بالوقوف للنشيد التونسي، كوقفة عسكري في ساحة القتال -حتى وإن كان الكثير من الحاضرين ليسوا بتونسيين- ويلتزم بالإنصات للموسيقى ولكلمات صاحبها التي يشرح بها من حين إلى آخر قصص المقطوعات الموسيقية وكيف ألفها وأين عزفها لأول مرة، وما رسالته منها.
واختارت المجموعة أن تقول لتونس “لا يليق بك الحزن”، وهو عنوان العرض المشارك في مهرجان قرطاج لكنه أيضا عنوان أول معزوفة أيضا، استهل بها الحفل وعزفت لأول مرة، في ظرفية سياسية واقتصادية واجتماعية وحتى ثقافية صعبة، حيث تعيش تونس حالة اضطراب وتذبذب وتحاول الدولة استرجاع توازنها بعد ضياع سنوات ما بعد ثورة يناير 2011 في التأسيس لأنظمة سياسية نهبت ودمرت ما تبقى من ثروات البلاد في أغلب المجالات.
ومن تونس سافر الجمهور نحو واحدة من أروع قصص الحب الأسطورية، التي جمعت “ملكة السماء” إنانا أو عشتار التي عشقها ديموزي أو ما يعرف بتموز، وتقول الأسطورة إنه بعد منافسة مع الكثيرين من خاطبي ودها والمتوددين إليها، نجح تموز في إقناع عشتار بالزواج منه.
وعاش الاثنان في نعيم وأُطلق على بيتهما اسم “بيت الحياة”، إذ جمع هذا الزواج المقدس بين إلهة الحب والخصب وإله الرعي والنباتات (الطعام) وبذلك اختزلا أساس الحياة ومن هنا أتت التسمية. وكذلك أتت فكرة معزوفة “إنانا وديموزي” التي ألفها الموسيقار العراقي في لحظة تخيّل للأسطورة.
وغير بعيد عن إنانا سافر نصير شمّة نحو بابل القديمة، أين ألف “سيدة الجنائن”، ليستحضر فيها موسيقيا لغز الجنائن المعلقة في بابل، التي يقال إنها صنعت لأجل امرأة، لم يذكر التاريخ اسمها لكنه ذكر أثرها المادي، فأتت الموسيقى بنوتات يدفعها الحب في سبر أغوار الماضي، فالحب الذي جمع آلهة وخلدها هو الذي أنشأ حدائق بابل، وهو الذي خلق “سيدة الجنائن”، التي اقتبس فيها الموسيقار العراقي جزءا من الأغنية العراقية “فوق النا خل”.
وغير بعيد عن التاريخ استوحى الفنان من أماكن أثرية مقطوعات موسيقية، حيث يقول إن “الأمكنة التي تسكنني أحولها إلى أنغام موسيقية”، لذلك ولدت “مدن النرجس” من رحم قلعة بابل، وجمال القلعة التاريخية، بنغمات الجوبي العراقي والدف الكردي، مع مقطع من أغنية أم كلثوم “ألف ليلة وليلة”.
واختيار أم كلثوم لم يكن اعتباطيا، بل قال عنه نصير شمة إنه كان نتيجة لأن أجمل تسجيلات أغنياتها كانت في تونس.
ومن بابل إلى جبل عكمة، والموقع الأثري الشهير الذي اكتشف في منطقة العلا السعودية، ويعود إلى أكثر من ألفين وخمس مئة سنة قبل الميلاد، ألف نصير شمة “هلال عكمة” وفيها عزف لأنغام عربية شرقية أصيلة.
ووسط كل هذا الاحتفاء بالتاريخ والأساطير عبّر الموسيقار عن رؤيته لمفهوم الصداقة، بعزف مقطوعة “مع ونتون”، وونتون هو صديق مقرب للفنان، وفي الموسيقى مقتطف من أغنية “بنت الشلبية” التي ولدت لأول مرة في لبنان على يد الموسيقار الراحل عاصي الرحباني لكنها تعزف في مدن عديدة حول العالم.
وألف نصير شمّة موسيقى “يوم للوطن”، وقال عن ذلك “نحن عملنا أيام لكل شي بس الوطن ما عملناله يوم”. وكان مطلعها النشيد الرسمي التونسي كاملا، ووسطها استعراض لموهبته على آلة العود ثم بعض الأنغام الإيقاعية المرحة.
وفي واحدة من وصلاتها الموسيقية، عزفت المجموعة “إلى تونس”، وهي موسيقى نوتاتها قريبة من اللحن الوتري التونسي، تعيد للأذهان أعمال رواد الموسيقى التونسية، وفيها مقتطفات من أغنية “لاموني الي غارو مني” للفنان الراحل الهادي الجويني.
ودام العرض ساعة ونصف الساعة، وكان أشبه برحلة في عالم الخيال، يترك فيها قائد المجموعة مساحة واسعة للعازفين لاستعراض مهاراتهم وتمكنهم من تطويع آلاتهم، كما يحول الجمهور أحيانا باقتباسه لموسيقى أغان شهيرة إلى كورال من عشرات المغنين الذين اختتموا العرض بترديدهم مقطعا من أغنية أم كلثوم على نغمات العود، وأغنية “تحت الياسمينة في الليل” التي ضمنها الفنان في مقطوعة بعنوان “غدا أجمل”.
وأثبت نصير شمّة بهذا الحفل أن علاقته بالموسيقى تتعدى كونها نشاطا فنيا، وأن علاقته بالجمهور التونسي لا تنحصر في علاقة الفنان بمحبيه، وإنما أبدى أغلبهم ألفة مع العازف العراقي، الذي قضى أكثر من ثلاثين عاماً في تأليف الموسيقى بأسطوانات وأعمال مستقلة أو التأليف للمسرح والموسيقى التصويرية للأفلام، وحتى في تجربة الموسيقى المرافقة للفنون التشكيلية، وفي الأفلام الوثائقية، وكذلك في الحفلات العالمية.