هل ينبغي أن نتسامح مع الجماعات الدينية؟
بقلم: د. محمد الوهيب
النشرة الدولية –
النهار الكويتية –
من أهم محاولات الإجابة عن هذا السؤال الصعب: «مع من ينبغي أن نتسامح؟» كانت إجابة الفيلسوف النمساوي- الإنكليزي كارل بوبر في العام 1945، فيما اصطلح على تسميته لاحقاً بـ «مفارقة التسامح». يعتقد بوبر بأن المجتمع المتسامح هو المجتمع الأكثر عرضة لأن يتم تدميره من قبل غير المتسامحين.
ومن هنا فعلى المجتمع، إن كان جادا في المحافظة على كيانه، ألا يكون متسامحا مع هؤلاء. لا يعتقد بوبر بتلك الفكرة الساذجة التي تطالب بحجب رأي الذين يختلفون مع أغلبية المجتمع، ما يقول بالفعل هو أنه يجب على المجتمع أن يحتفظ بـ «حق» منع هؤلاء من التعبير عن آرائهم وهم بالطبع من يشكلون تهديداً وجوديا للمجتمع برمته.
ما يميز هؤلاء عن كل الجماعات الأخرى، في نظره، هو أنهم لا يريدون الدخول في حوار «عقلاني» حول ما هو أفضل للمجتمع، بل قد نجدهم يمنعون أتباعهم من الخوض في مثل هذه الحوارات العقلانية، ذلك أنها تسقطهم على أرض لم يعتادوها ولم يجهزوا العدة لها.
لم يفقد الفيلسوف الأميركي المعاصر مايكل والتزر هذا الحس البوبري: الجماعات الدينية في نظره هي تحديدا الأكثر استفادة من التسامح المجتمعي وهي في الوقت ذاته الأشد في عدم تسامحها مع المختلفين عنها. يعتقد والتزر بإمكانية أن تتعلم مثل هذه الجماعات أن تكون أكثر تسامحاً، وذلك في حال وجودها في المجتمعات المتسامحة، ولكن درجة التسامح التي تصل لها يبقى سؤالا مفتوحا لم يجب عنه والتزر.
تجربتنا نحن في الشرق هي تجربة شديدة الخصوصية في علاقتها بالدين، فنحن ربما كنا من أوائل من اكتووا بنار هذه الجماعات الدينية قبل أن تبدأ زحفها نحو دول غربية عدة. خبرتنا كبيرة في عصرنا الحديث ابتداء من الاخوان في مصر وجماعة التكفير والهجرة، إلى جبهة الإنقاذ في الجزائر وحماس وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، السلفية الوهابية، داعش والقاعدة وغيرها؛ وعلى الجانب الآخر من النفق، نجد حزب الله، المجلس الأعلى للثورة بالعراق، التيار الصدري وحزب الدعوة … الخ.
تجربة غنية بلا شك، تختلف في تفاصيلها ومرجعياتها، ولكن يجمعها رابط مشترك واحد: كل منها يعتقد بأن الله جل شأنه قد تحدث معه وأفشى له بأسرار الكون كلها؛ كل من تلك الأحزاب يزعم امتلاك الحقيقة، وكل الحقيقة، بل والطريق إليها أيضا.
ولعلهم هم من كتب عنهم الشيخ الرئيس ابن سينا: «بلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم».
هل ينبغي للمجتمع أن يتسامح مع هذه الجماعات الدينية؟ لربما كانت بوصلتنا في الإجابة عن ذلك أمرين لا ثالث لهما: إذا كان الحوار هو قدر المواطنين في التباحث حول مصلحة وطنهم، وطنهم الذي تحده حدودا سياسية معترفا بها وفقا للقانون الدولي، فحري بنا أن نسألهم بعض الأسئلة: كيف يمكن تأسيس حوار منتج حول مصلحة الوطن؟ ربما كانت إجابتنا وإجابة معظم من يشتركون معنا في مواطنيتنا هي: حوار مبني على أسس عقلانية، أسس يبررها العقل والمنطق، فالعقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس.
وذلك بحد ذاته، نعم، بحد ذاته، قد يوقعنا في إشكالية كبرى مع هؤلاء المتعلقين بالنص الديني، فهم من يرون أنه لا مجال لحديث إنساني خطأ أمام وجود نص، متناسين في ذلك الأوجه العديدة لتفسير النصوص وتعقيدها، فهم في النهاية من يمتلك سلطة التفسير! وما فائدة ذلك الحديث برمته مع من لا يؤمن بالوطن وعلمه وحدوده، فكل تلك إن هي إلا تقسيمات صنعتها يد المستعمر ولا حقيقة لها على الإطلاق، وحدود دار الإسلام هي ما وصلت إليها مدافعه في دار الحرب!
لنقلها صراحة دون خجل أو مواربة، لقد استنزفتنا تلك الصراعات و«الحوارات» مع الإسلامويين لزمن طويل جدا حول ما هو أصلح لتنمية أوطاننا ورخائها، لنكتشف بعدها أن السبب الحقيقي لعدم وصولنا لاتفاق معهم هو أن حوارنا لم يكن حوارا، فتعريفهم للحوار كان أمرا مختلفا عما يعرف كل عاقل، وأوطاننا التي ندافع عنها لم تكن أوطانهم، ودستورنا الذي نؤمن به كصمام أمام تنظيمنا الاجتماعي لم يكن دستورهم يوما ما، فهل علينا التسامح معهم؟