56 سنة أخرى
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز
سواء تم أو لم يتم، في مفاوضات فيينا، الاتفاق بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية على تجديد الاتفاق النووي المبرم عام 2015، فإن الزبدة ستكون بالنسبة لدول الجوار العربية هي أن إيران لن تمتلك السلاح النووي في المدى المنظور، لكنها قادرة على تصنيعه..
مِثلها في ذلك مِثل أوكرانيا واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية، تمتلك تقنية الأسلحة النووية لكنها لا تستطيع إنتاجها بموجب ضوابط مجلس الأمن ومعاهدات الحد من انتشار هذه الأسلحة.
يسمونها دول العتبة النووية؛ لديها دورة العمل النووية الكاملة، لكن إنتاجها للأسلحة النووية له كلفة تفوق كثيرا متعة استعراض قوة الردع والمبادرة.
المشهد كله بالنسبة لدول الجوار العربي لإيران، وهي التي تقوم بين الشاطئ الشرقي للمتوسط والشاطئ الغربي للخليج، يعني شيئا مختلفا عما يعنيه لبقية دول العالم، ومنها مجموعة 5+1 الدائمة العضوية في مجلس الأمن، المعنية مباشرة بتجديد اتفاق 2015.
النووي الايراني من الزاوية العربية، هو فصلٌ عمره خمسة عقود، ضِمن مشهد تاريخي طويل متحرك يسميه المغاربة الأسطوغرافية، ويُقصد به جدل التاريخ والذاكرة بين العرب والفرس.
جدل ملحمي يستحضر الموروث التاريخي والثقافي والمذهبي، لينتهي بحقيقة أن العلاقة السياسية على جانبي مياه الخليج محكومة تاريخيا بمشاعر الرهاب من الجيران.
في الترويج الإيراني يقللون من دواعي القلق تجاه برامج طهران بشأن منظومات النووي والصواريخ البالستية، ويعتبرون ذلك نظرية مؤامرة، لكن دول الجوار العربية لا تستطيع إلا أن ترى في هذا التسليح إضافة نوعية بقوة تدمير شمولية، وهي تعيش تحديات دموية صنعها التدخل الإيراني في العراق ولبنان وسوريا واليمن.
نهجٌ اختراقي اعتمدته طهران مع ثورة الخميني وجددت فيه تاريخاً طويلاً من الغزو، لكن هذه المرة تحت شعار تصدير الثورة وبقوة التحشيد المذهبي.
ولذلك ترى الدول العربية من حقها أن ترتاب وهي تسمع الحديث المتكرر للرئيس الأمريكي جو بايدن عن ”اعتماد الدبلوماسية“ مع إيران لاحتواء برنامجها النووي ولوقف تدخلها الدموي في دول الجوار.
هو تدخل يعرف الجميع أنه مبرمج بحلم الوصول إلى الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط. وقد وصلت فعلا بعد أن جعلها حزب الله طرفا مشهوداً في قضية ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وأعطاها تنظيم الجهاد الإسلامي مسؤولية قيادية في إدارة المواجهة بين غزة وتل أبيب، ويسّر لها العراق وسوريا لوجستيات سكة حديد تربط طهران مع موانئ طرابلس لبنان ولاذقية سوريا.
دول الجوار العربي لإيران لا تستطيع أن تفهم محادثات فيينا الحالية بشأن النووي الإيراني، خارج سياقها التاريخي الذي تواصل على امتداد 56 عاماً، تساوى فيها نظام الشاه ونظام الملالي في اعتبار النووي عنواناً للتنفذ الإقليمي، وطموحاً لملء الفراغ الذي كانت قد أحدثته بريطانيا في انسحابها من المنطقة، ثم التهديدات الأمريكية على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية بالانسحاب من الشرق الأوسط.
ولعلّها أكثر من مجرد مصادفة أن ايران وإسرائيل بدأتا في وقت مبكر واحد تقريباً ببرمجة النووي، وأنهما ما زالتا حتى اليوم، تعتمدان هذه الورقة لضبط درجة حرارة المنطقة من فوق رأس الدول العربية التي تفصل بينهما.
في استعادة حوليّات الملف النووي الإيراني على امتداد العقود الستة الماضية، وصولا لمحادثات فيينا الحالية، ما يكفي الدول العربية لأن تُدرج هذا الملف ضمن“ أسطوغرافية“ الرهاب العربي الفارسي المتبادل، وترى في محادثات فيينا الحالية غير وأكثر مما تراه الدول الأخرى.
في منتصف خمسينيات القرن الماضي، كانت واشنطن هي التي أهدت شاه إيران فكرة النووي وهي تحاول أن تجعله حليفها الاستراتيجي في المنطقة بمواجهة الاتحاد السوفيتي.
وعلى امتداد خمسة وعشرين عاما، إلى أن أطاحت به ثورة الملالي، رعت واشنطن الشاه من خلال برنامج الرئيس دوايت ايزنهاور، ”الذرّة من أجل السلام“، وقدمت له مئات الكيلوغرامات من اليورانيوم المخصّب، ونقلت له من بغداد معهد العلوم النووية، كما زودته بالمفاعلات المتعددة الأغراض في أكثر من اتفاقية، وقّع هنري كيسنجر إحداها منتصف سبعينيات القرن الماضي.
وحتى عندما أعلن الشاه في حزيران 1974 تصميمه على امتلاك السلاح النووي (وكانت زلة لسان حاولت حكومته تحييدها)، ظلت واشنطن ترعى مشروع النووي الإيراني؛ سمحت للشاه بتنويع مصادر التزويد، وأرضاها ذلك أن يكون موضوع النووي أداة طهران في علاقاتها الدولية، وهو الأمر الذي أجادته إيران أيضا تحت حكم الملالي ووظفت فيه موروثها التاريخي في فن التفاوض القائم على الصبر وطول النفس وشراء الوقت.
هي ذاتها نظرية شراء الوقت التي اختصرها وزير الخارجية الحالي، حسين أمير عبد اللهيان، قبل أيام في تعقيبه على مسودة الاتفاق الذي قدمه المبعوث الأوروبي بشأن تجديد اتفاقية 2015، إذ قال ”سنختلف معكم وسنتحدث أكثر“.
وهي نفسها النظرية التي طبقتها الحكومات الإيرانية المتعاقبة بشأن ”النووي“ منذ أن تأسست مجموعة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن عام 2006.
نجحت طهران في جعل ملف النووي نقطة محورية في علاقاتها الدولية، حتى وهي مصنفة ”محور الشر“، وتقاسمت مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة إدارة هذا الملف بنهج المخاتلة؛ تراشقٌ لفظي بتوصيفات ”الشيطان الأكبر مقابل محور الشر“، فيما تجري بينهما مفاوضات بالسر والعلن وبالوساطة..
كل ذلك وواشنطن تعرف تماما أن طهران تواصل استكمال بناء الدورة النووية إلى أن أصبحت كاملة أو على مسافة أسابيع من الاكتمال.
المستجد الحقيقي الذي اخترق هذا المسلسل التاريخي كان ”إعلان القدس“ الذي وقعه الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد في 14 تموز/يوليو الماضي، وتعهد فيه الطرفان بمنع إيران من حيازة سلاح نووي..
فيه أكدت الولايات المتحدة أن جزءًا لا يتجزأ من هذا التعهد هو الالتزام بعدم السماح أبدًا لإيران بامتلاك سلاح نووي، وأنها مستعدة لاستخدام كل عناصر القوة الوطنية في سبيل هذه الغاية.
ورغم رخاوة النص في إلزام الولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية، إلا أن البيان في غموضه وصياغاته الفضفاضة، يمكن لحظة الاقتضاء أن يكشف ”حجر سنمار“ في عمارة النظام الإيراني، الحجر الذي تقول الأسطورة إن إزاحته تطيح بالبناية كلها.
نقطتان تحتلان الذاكرة العربية وهي تتابع موضوع الملف النووي الإيراني والنهج الأمريكي المثير للريبة في إدارة هذا الملف:
الأولى، كيف تصرفت واشنطن مع مشاريع نووية عربية مماثلة تولى بعضها الرؤساء السابقون، صدام حسين ومعمر القذافي، حيث جرى قصف أو تفكيك تلك المشاريع بالقوة وفي مهدها.
والثانية، حقيقة أن النظام الإيراني يفكر ويتصرف في موضوع النووي، على أنه جزء معزز للترهيب وللتدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار..
هي اشتباكات بالإكراه تندرج ضمن ما يسمى بالجيل الرابع للحروب، تتولاها إيران في أربع دول عربية على الأقل، بميليشيات طائفية تعمل بالوكالة من أجل زعزعة استقرار هذه الدول وإفشالها بالحروب الخشنة والناعمة، وبإثارة القضايا العرقية والدينية المستعصية.
ثم يأتي الجواب الأمريكي بأن الحل مع إيران هو الحوار الدبلوماسي!
على أي حال، ضع جانباً كل الصخب الذي تحدثه الدول الـ5+1 وهي تبحث الآن في المسودة الأوروبية عن مصالحها التجارية واعتباراتها الخاصة (هذا حقها وواجبها)، وسيبقى للدول العربية في قاع حلة الطبيخ أن إيران لن تحصل على السلاح النووي، ستبقى دولة عتبة، تعرف سرا كلفها حتى الآن 200 بليون دولار، لكنها لا تستطيع الاستفادة منه.. تماما مثل أوكرانيا.
ثم إن النسخة المجددة لاتفاقية 2015 – مهما تضمنت من تنازلات متبادلة بينهم في الإدراج الإرهابي والعقوبات والتعويضات وفي حقوق التبادل التجاري – فإنها ستُبقي نظام الملالي في طهران تحت المراقبة التي توسع فيها بيان القدس وجعلها برنامج عمل مستدام لأمريكا ولدول الشرق الأوسط التي أدخلتها إيران خلال العقدين الماضي في بيئة حروب الجيل الرابع.
56 سنة انقضت، ظل فيها ”النووي“ ورقة قوة لإيران، وبرعاية وشراكة أمريكية.. تجديد أو عدم تجديد اتفاق 2015 يتركان الموضوع مفتوحا للتفاوض والاشتباك، ربما لمدة 56 سنة أخرى، مع فارق أن هذا النووي تحول بعد ”بيان القدس“ إلى ورقة ضعف لايران، أيا كان يحكم من قم وطهران، الملالي أو من سيخلفهم.