ماذا أبقوا منك لك؟
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

كأنّي بالشاعر الأموي الذي كتب قبل 1330 سنه قصيدة ”قُلْ للمليحة بالخمار الأسود“، يتقلب الآن أسى في مثواه، عقب الكشف – قبل أيام- أن فريقًا من اختصاصيي الذكاء الاصطناعي أنتج تقنية تخترق الحجاب، فتجعلك تنظر للوجه فتراه تشكيلة رقمية، مع قدرة إضافية على تمييز إيحاءاته وقراءة طبقات نظامه العصبي.

الوجه المليح الذي كان يتحدى شطط الموهبة الشعرية، ليصفه ربيعة بن عامر التميمي بأنه يطيحُ الناسك المتعبّد، ويعطل المؤمن عن الفرائض، هو نفسه الوجه الذي ستخترقُ حجابه بعد اليوم تقنيةٌ خوارزمياتُها مُصمّمة لتصويره ثلاثي الأبعاد وتكشف لك هويته وعمره وتعابير عينيه، فتخليكَ من متعة شحن المخيلة.. يصبح الوجه حاصل ضرب بضعة أرقام وتقسيمه مثلًا على ثلاثة.

هل لمثل هذا الابتكار الذي أسموه ”الخمار العميق“، من توصيف غير أنه نموذجٌ أخير للكلفة الباهظة التي ندفعها، من رصيد الرضا، ثمنًا لوهم الحصول على ”الحياة الجيدة“، بتطوير خدمات رقمية تستهلك ما بقي من مُتع الفطرة التي تراكمت عبر مئات آلاف السنين وهي تسمح للمخيلة الفردية للإنسان بأن تجوس، بلا قيود، في المسافة الشاسعة بين عالميه الحقيقي والافتراضي؟

هي صدمة التقنية التي لا يجوز ولا نستطيع وقف إطرادها، حتى وإن اشتكينا من أن كلفتها كارثية.. لها مثيلٌ شهير في مسرحية ”تاجر البندقية“ لويليام شكسبير، التي تعرض صدمة المضطر للاقتراض بالربا حين يكتشف أن تخلّفه عن السداد سيكلفه رطلًا من لحمه يُقتطع من أي مكان في جسمه.

خلال العشرين سنة الماضية جرى تدفيع هذا الجيل أرطالًا متتالية من لحومهم الأخلاقية والوجدانية ثمنًا لمنتجات الذكاء الصناعي التي تتجدد بقوة البحث المشروع عن الأمن والرفاهية أو الاقتصاد الأخضر.

قبل 15 سنة من ابتداع تقنية ”الخمار العميق“ التي تعمل بتقطيع الوجه الإنساني وفرمه ناعمًا، كان الذكاء الصناعي انتهك ”العورة“ الإنسانية، بكل ما بُني عليها عبر الأجيال (بالصحّ أو خلافه) من حرامٍ وحلالٍ ومحّرشات تنزّ بالألفة كما تفيض بالعيب.

في العام 2007، أنتج الذكاء الاصطناعي تقنية لحماية المطارات العالمية من الإرهابيين، باستخدام الماسحات الضوئية للأشعة السينية لكامل الجسم؛ يُطلب فيها من المسافر أن يخضع لماسحات ضوئية تخترق الستر، بكل ما في الاختراق من إذلال إنساني، وانتهاك للخصوصية الشخصية.

لقي الإجراء في حينه اعتراضات بمختلف الدواعي، لكنه مرّ واستدام.

وللأمر مثله في موضوع الروبوتات الجنسية التي أقرّ مؤتمر دولي لها انعقد في لندن، العام 2016، بأنها ”تقنية في انتشار مطرد، سواء أعجبكم الأمر أم لم يعجبكم“، وكان تقديرهم أن معاشرة الروبوت المعزّز بالدفء الذكي ستصبح هي الأساس، فيما تتحول الحميمية الإنسانية الطبيعية إلى اقتصارٍ على المناسبات الخاصة.

هذا الروبوت الشبقي لم يختلف كثيرًا عن مثيله العاطفي ”لوفوت“ الذي طُوّر في اليابان قبل بضع سنوات بهدف تحقيق ”السلام العاطفي“ في المنزل.

هو مصمّم كنموذج يستشعر مزاج الشخص بعشرات المجسّات لتصنيع سلوك شبيه بالإنسان.

وعندما تناديه باسمه يأتيك، يتطلع في عينيك، ويطلب أن تحضنه فيستشعر الدفء.

كان الهدف المعلن منه هو أن يساعد الأسُر المعطوبة بالجفاء، لكن مصمميه لم يخفوا تخطيطهم لأن يتحول من مساعدة البشر إلى استبدالهم.

لعلّه في ذلك لا يبتعد كثيرًا عن خوارزميات الكائنات المعدّلة وراثيًا، أو برامج التقنيات اللغوية التي أصبح فيها برنامج الذكاء الصناعي قريبًا من عتبة امتلاك المشاعر.

جُلّها ابتكارات تقنية تأكل من الصحن الإنساني، وتنتهك خصوصياته، وهي تلغي الحلم والمخيّلة، وحق الاختلاف في الاستجابة للفرح أو الزعل أو اللايقين.

صدمة التقنية السلبية تجاوزت لدينا في الشرق الأوسط النطاق الفردي إلى الأممي، وليس أكثر دلالة على ذلك من أن المنطقة في الفصل التالي من ملف النووي الإيراني باتت تتأهب لمعضلة الطائرات المسيّرة الصغيرة التي أصبحت جزءًا من المشهد الإقليمي المأزوم بالحروب الصغيرة المتنقلة.

قريبًا ستكون طائرات الدرونز (وقد أضحت متاحة للجميع بمن فيهم الشباب) أداة كفؤة ليس فقط في اختراق الحدود الوطنية وإنما أيضًا في انتهاك الخصوصيات الشخصية للأفراد.. فهي قابلة للتطويع لبرمجة اغتيال الشخص المستهدف وهو يجلس في بيته مع أبنائه، بقدر قابليتها لأن تُصوَره في غرفة النوم ليتولى بعد ذلك روبورت خاص (بوت) تعميم الصورة على السوشيال ميديا.

طوال السنوات الأربعين الماضية، لم يكفّ دعاء الأخلاق التقنية عن الإلحاح في الدعوة لاكتشاف وتطبيق القواعد المنطقية من أجل ترشيد التقدم التقني وتطويع رعب صدماته المتجددة.

لكن كل ذلك لم يُسعف كثيرًا في لجم شركات التواصل الاجتماعي الكبرى، التي تقدّر قيامها بتريليونات الدولارات، من استحواذ بيانات الخصوصية لدى مستخدميها، وفي معظم الأحيان مجانًا أو دون علمهم.

ومن فوق ذلك كله، ارتأى تطبيق ”تيك توك“ أن يتقاضى بعض تمن خدمته من الرصيد الأخلاقي للشعوب التي توصف بأنها محافظة. تستمتع لدقيقة بنكتة ذكية لتفاجأ أن الفيديو التالي الذي يحتل نظرك هو بورنوغرافي فظ أو نصائح جنسية صادمة لا يمتلك ابنك الصغير مناعة تجاوز مشاهدتها.

الذكاء الاصطناعي استهلك خلال جيلنا معظم ما أبقته الحكومات من الخصوصيات الفردية في حقوق المراقبة والتخيل والتحيّز، وتركك تسأل نفسك: ماذا بقي لي مني؟

Back to top button