مقتل دوغين فصل جديد في تاريخ الاغتيالات بين روسيا وأوكرانيا

تشكل العملية هذه طعنة مباشرة للرئيس بوتين وأول اختراق استخباراتي من نوعه للأمن في موسكو

النشرة الدولية –

اندبندنت عربية –

سوسن مهنا صحافية @SawsanaMehanna

أتت عملية اغتيال داريا دوغين، ابنة الفيلسوف الشهير ألكسندر دوغين، بتاريخ الـ20 من أغسطس (آب) الحالي، لتعيد خلط الأوراق ما بين روسيا والغرب. ووفق تقارير إعلامية روسية فإن العملية كانت تستهدف ألكسندر دوغين نفسه المعروف باسم “عقل بوتين”، بسبب دوره في صياغة العقيدة العسكرية الخاصة بالجيش الروسي، ويعتبر المهندس أو “المرشد الروحي” لغزو روسيا لأوكرانيا، وكان تنبأ بأن الحرب بين روسيا و”الناتو” في أوكرانيا “حتمية”، وعرف عن داريا وصفها للأوكرانيين بأنهم “دون البشر”، وهي أيضاً من الدعاة إلى “الاحتلال الروسي لأوكرانيا وإبادة الهوية الأوكرانية”.

واعتبرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية في تقريرها أن مقتل الصحافية والمعلقة القومية الروسية داريا دوغين يفتح فصلاً جديداً من تاريخ الاغتيالات السياسية في روسيا، ويعيد الأذهان إلى فوضى التسعينيات في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي، وتابعت الصحيفة أنه “شهدت الأعوام الأخيرة حملة استهداف واسعة لرجال الأعمال والصحافيين في أوكرانيا، وفي الأسابيع الماضية تم استهداف شخصيات موالية لروسيا في الأجزاء التي تحتلها روسيا”، وأضافت “لكن مقتل دوغين كان شيئاً مختلفاً. كانت السيارات المفخخة إحدى حيل موسكو في التسعينات، لكنها أصبحت نادرة بعد سيطرة بوتين على البلاد”.

وبحسب “نيويورك تايمز” فإن حادثة مقتل دوغين “كانت جريئة، لأنها حدثت بالقرب من ضاحية روبليوفكا الروسية موطن الفيلات المترامية الأطراف للطبقة الحاكمة في روسيا”، وأعلنت السلطات الروسية مباشرة عقب الحادثة أنها فتحت تحقيقاً في مقتل دوغين البالغة 30 سنة، وقال جهاز الأمن الفيدرالي الروسي في بيان نقلته وكالة “سبوتنيك”، إن منفذة عملية التفجير الذي أودى بالصحافية داريا دوغين، مواطنة أوكرانية فرت بعد التفجير إلى إستونيا.

وتابع البيان “ثبت أن الخدمات الخاصة الأوكرانية هي التي أعدت الجريمة وارتكبتها، والجاني مواطنة أوكرانية تدعى ناتاليا بافلوفنا فوفك، ولدت عام 1979″، وأضاف أن “فوفك وصلت إلى روسيا مع ابنتها البالغة من العمر 12 سنة في الـ23 من يوليو (تموز) الماضي، واستأجرت شقة في المبنى الذي تعيش فيه لاتانوفا (داريا دوغين) من أجل جمع معلومات حول أسلوب حياتها”. كما أفادت المعطيات بأن “المجرمين استأجروا سيارة من طراز (ميني كوبر) لمراقبة الصحافية، وقد تم تبديل لوحات أرقامها بأرقام تابعة لدونيتسك عند عبور الممر الحدودي، ثم في موسكو تم استخدام أرقام كازاخستانية، وأثناء المغادرة استخدمت لوحات أرقام أوكرانية”.

كما أعلنت السلطات الروسية أن حادثة مقتل ابنة الفيلسوف والسياسي الروسي ألكسندر دوغين “جريمة مدبرة ومخطط لها مسبقاً”، وأوضحت لجنة التحقيقات الروسية في مقتل دوغين أنه “في الوقت الحالي ثبت أن عبوة ناسفة زرعت أسفل السيارة من جانب السائق، وتوفيت داريا دوغين التي كانت تقود السيارة على الفور”، بحسب ما نقلت قناة “روسيا اليوم”.

“تضارب” في المواقف الروسية

وكانت صحيفة “نيويورك تايمز” قد سلطت الضوء على “تضارب المواقف” بشأن مقتل دوغين، إذ وصف التلفزيون الروسي الحكومي الانفجار بأنه كان قوياً لدرجة أنه حطم نوافذ المنازل المجاورة، وألقى المقربون من دوغين والمعلقون المؤيدون للكرملين باللوم على أوكرانيا، بينما افترض بعض منتقدي الكرملين الروس أن الهجوم كان ذريعة من قبل مؤيدي الحرب لدفع بوتين إلى تصعيد الصراع، واختتمت الصحيفة تقريرها بالقول “مهما كانت المواقف فإن الهجوم فتح فصلاً جديداً من تاريخ الاغتيالات في روسيا وأوكرانيا”، واتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الدولة الأوكرانية بالوقوف خلف جريمة اغتيال داريا دوغين، ابنة صديقه ومستشاره، ووصف الجريمة بـ”الدنيئة والوحشية”، وتشكل عملية الاغتيال هذه طعنة مباشرة للرئيس بوتين، وأول اختراق استخباراتي من نوعه للأمن الروسي.

يقول رئيس تحرير صحيفة “الشرق الأوسط” غسان شربل في افتتاحيته في الـ22 من أغسطس الحالي، “واضح أن القاتل أراد استخدام دم دوغين لإيفاد رسالة موجعة إلى والد روسيا الجديدة، الوافدة من رحم الحرب الروسية في أوكرانيا، والرسالة بالغة الخطورة، إنها ضربة مؤلمة تحت الحزام، ولنا أن نتخيل حجم الغضب الذي اكتسح وجه فلاديمير بوتين حين أبلغ بالجريمة، وبوقوعها في منطقة موسكو بالذات، مجرد حصول الاغتيال يعني أن جهة ما قررت اجتياز كل الخطوط الحمر، ونقل المواجهة إلى مرحلة أشد هولاً”. وقالت ماريا زاخاروفا المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، إنه إذا توصل التحقيق إلى مسؤولية أوكرانيا، فإن ذلك سيشير إلى سياسة “إرهاب الدولة” التي تنتهجها كييف، لكن إيليا بونوماريف العضو السابق في الدوما (البرلمان الروسي) والمعارض لبوتين، قال إن مجموعة روسية غير معروفة يطلق عليها “الجيش الوطني الجمهوري” قد تبنت الهجوم على داريا دوغين، بحسبما نقلت صحيفة “الغارديان”، مضيفة نقلاً عن بونوماريف، بأن هذه المجموعة هي مناهضة للرئيس فلاديمير بوتين ولغزو أوكرانيا.

بدورها، نفت أوكرانيا تورطها في هذه الحادثة، وقال مستشار الرئاسة الأوكراني ميخايلو بودولياك في حديث للتلفزيون الأوكراني “أؤكد أن أوكرانيا بالطبع ليس لها علاقة بهذا لأننا لسنا دولة إجرامية مثل روسيا الاتحادية، وعلاوة على ذلك لسنا دولة إرهابية”، وذكرت صحيفة “الغارديان” البريطانية أنه يجب على أوكرانيا أن تستعد الآن لـ”انتقام” روسي محتمل رداً على مقتل دوغين، وذلك بعد أن حذر الجيش الأوكراني من أن موسكو تستعد بالفعل لشن هجوم كبير على بلاده، تزامناً مع “يوم استقلال أوكرانيا” في الأربعاء الـ24 من أغسطس الحالي.

ونقلت “الغارديان” عن الجيش الأوكراني قوله، إن روسيا “وضعت خمس سفن حربية وغواصات تحمل صواريخ كروز في البحر الأسود، كما وضعت أنظمة دفاع جوي في بيلاروس”، مشيراً إلى أنه “تم حظر التجمعات الكبيرة في العاصمة كييف، لمدة أربعة أيام بدءاً من الإثنين الـ22 من الشهر الحالي”، وقالت الصحيفة: “يعرف ألكسندر دوغين بتبنيه وجهة نظر يمينية متطرفة عن مكانة روسيا في العالم، وكان قد دعا سابقاً إلى العنف ضد أوكرانيا، بينما كانت ابنته تحمل وجهات نظر مماثلة”، وأضافت: “يزعم بعض المتابعين أن دوغين ساعد في تشكيل السياسة الخارجية التوسعية لبوتين، لكن تأثير دوغين على بوتين لا يزال موضع تكهنات، إذ يقول عديد المطلعين إن نفوذه على الكرملين كان ضئيلاً”.

من ألكسندر دوغين “المستهدف”؟

كانت مصادر مقربة من دوغين خلصت إلى أن جميع المؤشرات الأولية تؤكد أنه كان هو نفسه مستهدفاً في الانفجار الذي أودى بحياة ابنته داريا، على طريق قرب قرية بولشي فيازيومي، على مسافة 40 كيلومتراً من موسكو، بعد مشاركتهما في مهرجان “التقاليد” الهادف إلى المحافظة على التقاليد الوطنية في محافظة موسكو، وذكر مشاركون في المهرجان أنه بعد إلقاء دوغين محاضرة كان ينوي مغادرة المكان في السيارة التي استقلتها ابنته، ولكنه اختار سيارة ثانية كانت تسير خلف سيارة داريا، وانتشرت مقاطع فيديو على قنوات “تيليغرام” وهو بحال من الذهول أثناء مراقبته النيران، وهي تشتعل في سيارة ابنته التي قتلت على الفور، ولم يتم التعرف عليها إلا بعد فحص الحمض النووي، بحسب وكالات الأنباء الروسية نقلاً عن مصادر طبية.

ولد دوغين  في السابع من يناير (كانون الثاني) 1962، في موسكو بعهد الاتحاد السوفياتي، أمه طبيبة، ووالده يعمل ضابطاً في دائرة الاستخبارات العسكرية في هيئة الأركان العامة بالاتحاد السوفياتي “كي جي بي”. فيلسوف روسي يتقن ثماني لغات، درس الطيران في معهد موسكو قبل أن يغير مساره إلى الفلسفة والعلوم السياسية وعلم الاجتماع، هو عالم سياسي وعالم اجتماع ومترجم وشخصية عامة، ومرشح في العلوم الفلسفية، لديه دكتوراه في العلوم السياسية، ودكتوراه في العلوم الاجتماعية، وأستاذ جامعي، وهو رئيس قسم علم الاجتماع للعلاقات الدولية في كلية علم الاجتماع في جامعة موسكو الحكومية، وزعيم الحركة الأوراسية الدولية، إضافة إلى أنه مؤلف النظرية السياسية الرابعة التي ترى نفسها الخطوة التالية لانتهاء المدارس السياسية الثلاث الليبرالية والاشتراكية والفاشية، ويهدف نشاط دوغين السياسي إلى إنشاء قوة عظمى أوراسية من خلال اندماج روسيا مع الجمهوريات السوفياتية السابقة في الاتحاد الأوراسي الجديد، يسميه الغرب “عقل بوتين” أو “بوتين – راسبوتين”، ويزعم بأنه الملهم الروحي لبوتين وللقادة العسكريين الروس، وذلك انطلاقاً من كتاب لدوغين يتناول فيه الجيوبوليتيك باللغة الروسية عنوانه “أسس الجيوبوليتيك”، ويدعو فيه روسيا إلى التحلي بالقوة والسعي للعودة إلى الساحة العالمية، وتقويض هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على العالم.

دوغين والبحث عن أمجاد روسيا

وبحسب مواقع سورية معارضة لمع نجم دوغين عام 1997، حين نشر كتابه “الأوراسية الجديدة وأسس الجغرافية السياسية”، ليصبح مقرراً إلزامياً لطلبة أكاديمية هيئة أركان القوات المسلحة الروسية، الذي دعا فيه إلى قيام أمبراطورية روسية جديدة، تمتد من فلاديفوستوك في أقصى الشرق الروسي إلى جبل طارق في أقصى غرب أوروبا، يعتبر دوغين أن التدخل الروسي في سوريا مفيد لمشروع “أوراسيا”، ولمجرد أن المعارضة السورية قد تكون حصلت على دعم من قوى غربية في فترة ما من الانتفاضة، يرى أنه من واجب روسيا القتال إلى جانب النظام السوري، معتبراً الانتفاضة السورية مجرد “مؤامرة” أميركية، وكررت أفكار دوغين وسائل إعلام النظام السوري على مدار سنوات طويلة، أبرزها أن انهيار سوريا (نظام بشار الأسد) سيؤدي إلى موجة انهيارات في المنطقة، لينتشر تنظيم “داعش”، ويصل إلى حدود روسيا، فضلاً عن هجرة ملايين الناس إلى أوروبا وتأثيرهم في السياسة داخلها، ما سيعود بالضرر على “أوراسيا”. وبحسب رؤية دوغين، فإن التحالف بين إيران وروسيا لا غنى عنه من أجل إقامة “أوراسيا”، وأن الإيرانيين لا يمكن أن يكونوا إرهابيين، بحسب تعبيره.

وكان زار إيران عام 2016، متوجاً زيارته بلقاءات في مدينة قم التي تحتضن أهم مركز لعلوم آل البيت والمذهب الشيعي، ولم يخف دوغين سروره وسعادته لوجوده في تلك المدينة، حين عبر قائلاً “إنني سعيد للغاية لأنني أتيت إلى المعقل الرئيس لمكافحة الحداثة، فإنني كرست حياتي لمكافحتها، لأنني اعتبر أن الحداثة تعني الشيطان”.

وبحسب وكالة “فرانس 24″، داريا دوغين ووالدها ألكسندر دعما العملية العسكرية الروسية وبوتين، وكانا يسعيان إلى تشكيل تيار سياسي والبحث عن أمجاد روسيا والأمبراطورية الروسية، ولطالما ترددت داريا إلى دونباس حيث كانت تقابل انفصاليين، لكن تحركاتهما ليست مدعومة من السلطة في روسيا، وداريا هي خريجة الجامعة المركزية الروسية تخصص فلسفة، وهي ناشطة سياسية في المنطقة الانفصالية، ونقلت عن أستاذ في الأكاديمية الروسية قوله إن “دورهما إعلامياً مبالغ فيه، فلقد باتت أوكرانيا سلماً لكل من يريد تحقيق مجد سياسي، إن كان من الطرف الأوروبي أو من الروسي، لا علاقة لهما بالكرملين لكن دعما العملية العسكرية ككثيرين”. ويتابع الأكاديمي أن “ألكسندر دوغين صاحب فكرة أوروآسيوية لإنشاء إمبراطورية روسية واسعة، لكن تمجيده جاء عن طريق وسائل الإعلام العربية والأوروبية، حيث إن القنوات الروسية لم تتحدث عنه بتاتاً، في روسيا فلاسفة كبار ومعروفون، أما دوغين فهو مجهول عند عموم الروس، يمكن وصفه بأنه نجم سياسي خارج روسيا وليس داخل البلاد تماماً مثل ابنته التي كانت أشهر منه، إذ سبق أن كتبت عنها وسائل الإعلام الروسية”. وبحسب المصدر نفسه، فإن “دوغين ليس مقرباً من الكرملين، ولم يسبق أن تناول الإعلام الروسي أية معلومات عن مثل هذه العلاقة، وكل ما تم ذكره جاء على لسان الإعلام الغربي، كما ليس له أي ثقل سياسي في روسيا، لكنه حاول في المدة الأخيرة أن ينقل عبر وسائل الإعلام الغربية والعربية أنه مهدد من الطرف الأوكراني، تم تهديده وتهديد ابنته وهي ناشطة سياسية في دونباس تزعج وزارة الدفاع الأوكرانية”.

وكانت الولايات المتحدة الأميركية قد فرضت عقوبات على دوغين عام 2014 بعد ضم القرم، وأضيفت ابنته إلى قائمة العقوبات الأميركية بسبب “دورها الإعلامي في تأييد العملية العسكرية في أوكرانيا”.

Back to top button