الدكتور مصطفى متبولي: ” كتاب مغتربة في وطنين” يعيد إحياء مسيرة حياة وتجربة شخصية للكاتبة ليليان قربان عقل
النشرة الدولية –
في مقال تحليل حول كتاب “الدكتورة ليليان قربان عقل” كتب “الدكتور مصطفى متبولي” الأستاذ الجامعي والباحث في علوم الإعلام والإتصال في فرنسا ولبنان، والمدير السابق لكلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، استهله بقوله: “أعادت صورة ليليان قربان عقل مع سامية نكروما المنشورة على الفيسبوك في 2 آب 2023 ذكريات الماضي الى ذاكرتي المتعلقة بالصداقة التي ربطت الرئسين جمال عبد الناصر وكوامي نكروما”.
نكروما وعائلته مع الرئيس عبد الناصر
وكانت هذه الصورة أيضًا نقطة إنطلاق لتهييج أشجاني وسروري وحيرتي ومعاناتي حول الغُربة والإغتراب ( وأنا المُغترب الذي عاش بين لبنان وفرنسا ) التي ذكرتني بهما ليليان قربان عقل عندما قرأت كتابها ” مُغترِبة في وطنَين” ( جديدة المتن، دار سائر المشرق،2021). هنا ” الصورة ” أصبحت إسمًا مرادفًا ” للذكريات “ ويجب الإعتراف بأنه في كل مرة كنت أحاول الكتابة عن كتاب ” مُغترِبة في وطنَين” كانت محاولتي تبوء بالفشل وفي كل نص كتبته كانت تنضح منه تفاصيل تجربتي الحياتية والجامعية بين وطنين أي لبنان و فرنسا بسبب التماهي المُفرط مع التجربة الشخصية اللبنانية والغانية للكاتبة ليليان قربان عقل. ومن نتائج هذا التماهي التشابه الكبير بين ما أكتب وبين مضمون الكتاب ولذلك صرفت النظر عن فعل ذلك. ولكن صورة ليليان قربان عقل وسامية نكروما المنشورة كانت المفتاح المناسب والمُحفز لتبني مقاربة أخرى لكتاب ” المُغتربة في وطنين ” بعيدًا عن التماهي مع الكاتبة ومحتوى كتابها
حول كتاب ” المُغتربة في وطنين “ هذا الكتاب هو إعادة إحياء مسيرة حياة وتجربة شخصية للكاتبة ليليان قربان عقل بين وطنيين لبنان وغانا: ” غربتي الأولى… الساعة الثالثة فجر 21 حزيران سنة 2001، أقلعت طائرة الخطوط الجويّة اللبنانية من بيروت باتّجاه أكرا، عاصمة دولة غانا الأفريقية. لحظةُ صمتٍ سلختني عن الوطن، عن الأهل والأصدقاء لتحوّلني بسرعة الى مغتربة … رائعٌ الوطن من فوق، حيث نسترجع كلّ لحظات الحبّ وننسى كلّ ذلك الكذب الذي كاد يخنقنا على أرضه، وكأنّه كان عليّ أن أغادر لبنان لأحبّه هكذا! اغرورقت عيناي بالدمع… حقًا إني أغادرني، غدًا لن أقدر على تقبيل أمي، غدًا لن أستلقي في حضن الشوير، غدًا لن أذهب إلى مكتبي في مجلّة “الحسناء”، غدًا لن … أخذت أدندن أغنية فيروز “بحبك يا لبنان، يا وطني…” ثم غفوت مُتّكِئَة على ذكرياتي لأستيقظ في الجو الغاني “أهلًا وسهلًا بكم في أكرا…”، هكذا رحّب بنا الكابتن اللبناني في الأراضي الغانية… ها هي الطائرة تعانق أرض المطار، لتكشف لي بعض معالم عالمٍ آخر ينتظرني خلف الباب … وهكذا بدأت حكايتي في عالم الاغتراب. ” ( صفحة 19) ويتضمن الكتاب ايضًا مجموعة من ذكريات الماضي المحفورة في ذاكرة الكاتبة والتي تفيض منها لا شعوريًا لترسم مسارات حياتها في حُلوها ومُرها ومعاناتها بين وجودها المكاني والنفسي والوطني أي بين هنا وهناك والعكس خاصة بعد حصولها على الجنسية الغانية: ” بين الهوية اللبنانية الموروثة والهوية الغانية المكتسبة يتصارع الانتماء إلى اللاانتماء أو إلى انتماء آخر قد يكون نتيجة تكامل الهويَتين في بُعدَيهما الروحي والمادي، هي علاقة تبادلية تفاعلية قد تجمع التناقضات لتحرّر الذات من الصورة النمطية التي اعتادت على اكتسابها بحكم التربية والعادات الموروثة. ” ( صفحة 16) و تناثرت الذكريات الجميلة للكاتبة على صفحات الكتاب والمغمورة بالحنين الى إيام مضت وعلاقات إنسانية وَهَنَتْ والتي كشفت بخفر عن محاولاتها المستمرة للعيش في لبنان وغانا في آن معًا بفرح وانسجام لكونها منتمية اليهما: ” من الغربة في الوطن إلى الوطن في الغربة، حكايات تتكامل حينًا وتتصارع أحيانًا أخرى لتستريح في بُعدها الإنساني الذي يرتقي دومًا بالآخر. هو صراع الانتماء الذي قد يتحبّط في ذاكرة الأيام بين بلدَين ولغتَين أو أكثر، ومجموعة من العادات الثقافية، غالبًا ما يعاني منها المغترب الذي يعيش ازدواجية المعايير وما يترتّب عليها من خيارات ومواقف تنسج قناعات قد تنقش على مفارق عمره هوية جديدة هي مزيجٌ مما غربله بين المنطق والارتباط العاطفي، بين المصلحة الشخصية وعنفوان الذاكرة، بين إرثه من آبائه وما سيورِثه لأبنائه… ” ( صفحة 17 ) صحيح إن الوقت لا يمحو ذكريات الماضي إنما يحول الذكريات الى أفكار مشوشة والى آثار غير واضحة المعالم تفتش عنها ليليان قربان عقل في غربتها في لبنان من خلال يقينها بأن الآخر موجود فيها ويسكن كيانها رغم الغياب والغربة والكسوف الجزئي لشمس علاقاتها الإنسانية وحول ذلك كتبت: ” …وقد ابحث عني في نظرات لبناني الي، اراه يحدق بي كانه يتذكرني ويحاول ان يستذكر كيف كنت احبه قبل ان اغادره منذ عشرين عاما، ويتساءل هل ما زلت وفية اليه، هل حصولي على جنسية غانية انتقصت من انتمائي اليه؟ هل يمكن ان انساه يوم تاخذني الغربة الى عالمها واستلزاماتها وروتينها؟ اطمئنه، احاول ان امسح دموعه، ان اؤكد له اني ابنته ولن اتخلى عنه ابدا، فيعانقني بقوة كانه لم يصدقني، كانه يخاف علي منه، من حبي له، من ازماته التي لا تنتهي، من خيباتي به، من انه لم يقدر ان يشعرني بانه حقا وطن الكرامة وحرية الانسان…” (صفحة 43) والحنين الى بلدة الكاتبة “الشوير” نبع لا ينضب من العشق اللامتناهي والتعلق بأرضها و الإنتماء إليها وهو في الوقت نفسه شعور صادق ممزوج بالدموع ؛ أليس الحنين كما قال الشاعر محمود درويش: ” أنا لا أبكي، كُـلُ ما في الامرِ أن غبار الحنين قد دخلتْ عيني” . وهكذا تصف الكاتبة العروة الوثقى التي تشد روحها الى مسقط رأسها “الشوير” بقولها: “”الشوير”، بفكرها النهضوي حملتها معي إلى غانا انفتاحًا ببعد روحي يتجاوز المادة ليلتقي بالإنسان أنّى وُجِدَ ويرتقي معه إلى الانتماء الكوني … واليوم، وبعد عشرين سنة من الغربة، كلّما زرت الشوير وغادرتها إلى غانا من دون أن أغادرها أبدًا، أغسل ترابها بدموعي وكأنّي أريد أن أسقيها، أن أترك شيئًا منّي حيًّا في نبضها، في عروقها، في دمها، شيئًا مني ينتظر عودتي إليها وسأعود…” ( صفحة 21) وتؤكد ليليان قربان عقل بأن هويتها اللبنانية الموروثة وهويتها الغانية المكتسبة هما مصدر فخر وإعتزاز لكونها لبنانية وغانية في نفس الوقت وهما مصهر روحي لتلاقي حضارتين متكاملتين ولكل واحدة منها لها خصوصيتها ولكن ذلك لا يشكل عقبة لإنتمائها إليهما. ومن الملاحظ بأن الإنتماء الى الهويتين اللبنانية والغانية لا تندرجان ابدًأ تحت تسمية هُويات قاتلة (أمين معلوف ) او ” هُويات تعيسة ” إنما هما هُويات فرح وسعادة وكأن الكاتبة ليليان تتبنى ما قاله الأكاديمي اللبناني-الفرنسي أمين معلوف في كتابه ” الهُويات القاتلة “: ” منذ أن غادرت لبنان عام 1976 لأقيم في فرنسا، كم من مرة سُئلت، وعن حُسن نية، إذا كنت أعتبر نفسي فرنسياً أكثر مني لبنانيًا أو العكس. وكنت أجيب على الدوام: ” الإثنان معًا ” وليس هذا من باب الموازنة أو الإنصاف بل لأني لو أجبت بغير ذلك لكنت كاذبًا. إن ما يجعلني ما أنا عليه وليس شخصًا آخر هو وقوفي على تخوم بلدين ولغتين أو ثلاث، وعدد من التقاليد الثقافية. وهذا بالضبط ما يحدد هويتي. فهل أكون أكثر أصالة لو اقتطعت جزءأً مما أنا عليه؟ ص. 9 ( أمين معلوف، الهُويات القَاتله، ترجمة جبور الدويهي، بيروت، دار النهار، 1999 ) وفي نفس السياق تقول الكاتبة ليليان قربان عقل: ” بين لبنان وغانا قصة عشق كتبت فصولها اياما من عمري، تنقلت بخفة على متن الخطوط الجوية اللبنانية، جسر عبور محمل بالاشواق والدموع… فبين كل “الحمد لله على السلامة” و “الى اللقاء” تتمزق “الأنا” في وجدانها لتلتقي في “الآخر” بتكامل روحي امتزج بالحنين في اجمل المشاعر الانسانية واصدقها…” ( صفحة 34 ) صورة ليليان مع سامية إن الصورة المنشورة على الفيسبوك التي جمعت ليليان قربان عقل مع صديقتها سامية كوامي نكروما تُعبر عن لقاء صديقتين، الأولى هاجرت من لبنان الى غانا والثانية مواطنة من غانا جمعتهما الأقدار ونشأت بينهما صداقة وثيقة كتبت عنها ليليان : ” والتقينا (ليليان و سامية ) ، تجاذبنا أطراف حديث لا ينتهي، جلنا معًا في أرجاء عامٍ مضى على لقائنا الأخير وكأنه كان البارحة، زرنا معًا كل تلك الأمكنة الكامنة في ذاكرة الأحداث، بفرحها وحزنها ، بضعفها وقوتها وجدّدنا عهدنا على صداقتنا بابتسامة تبلسم كل الجراح…” و بمجرد قراءتي لإسم سامية كوامي نكروما في كلام ليليان عقل قربان الإيضاحي المرافق للصورة جعلني أغوص لا شعوريًا في ثنايا ذاكرتي واستذكر بداية مرحلة وعيي السياسي التي تزامنت مع سطوع نجم الرئيس جمال عبد الناصر وكوامي نكروما. و لعبت هذه الإشارات الظاهرة الموجودة في هذه الصورة دورًا ايحائيًا كبيرًا للكشف عن دلالاتها المُضمرة من خلال إستعادة ماضي العلاقات التاريخية بين جمهورية مصر العربية وغانا و الصداقة العائلية بين جمال عبد الناصر وكوامي نكروما. و هذا الإسترجاع للماضي هو تَمَثُّل مرئي ذاتي لأحداثه représentation subjective . وتجدر الإشارة الى أن وصف العناصر المُكونة للصورة كان سهلًا على عكس الصعوبات التي واجهتها أثناء الكتابة عن الدلالات الكامنة فيها وما كتبه ميشال فوكو في كتابه الكلمات والأشياء، “et les choses Les Mots” يشير بوضوح الى هذه المُشكلة: ” نستطيع القول او الكتابة عن ما نراه، ولكن الذي نراه لا يمكن أن يتضمنه او يسكن فيه النص الذي نقوله او نكتبه” باختصار توجد صعوبة في كتابة نص حول صورة او عمل فني. وهذه الصورة موضوع التحليل السيميائي مرتبطة بمرجعية référent الواقع المُصَوَرْ وليست محاكاة له. ومن خلال إشارات الصورة الظاهرة ودلالاتها المُضمرة يمكن القول بأنها ليست تمثُلًا او تمثيلًا لما يراه الناظر إليها إنما هي إنعكاس للواقع الحقيقي و شاهد عليه وكاشفة لبعض تفاصيله المُضمرة signifié من خلال الشخصية المُصوَرة(سامية) personne photographiée. إذًا من خلال سامية نكروما الظاهرة في هذه الصورة والكلام المرافق لها أستحضرت طيف الماضي والتاريخ النضالي والسياسي للرئيس كوامي نكروما؛ و أستذكرت بواسطتها شذرات من الماضي والحاضر ظله في ثنايا ذاكرتي. هنا الصورة لعبت دور المُحفز لي للإبحار في عالم الذكريات بهدف إصطياد المُمكن منها. أنظُر الى الصورة وأرى أب وأم سامية من خلالها وتفرض هذه التجليات نفسها على كتابة نصي. ومن بعد الإنتهاء من النظر للصورة وتوصيف إشاراتها الظاهرة شرعت بكتابة نصي التحليلي مطلقًا لمخيلتي العنان بهدف مقاربة الماضي الغائب والحاضر في الصورة وكأن هذه الصورة كانت بمثابة مُحفزٍ للكتابة. ولكن إسترجاعي لذكرياتي الشخصية عن هذه الحقبة التاريخية والنضالية تمت بحذر شديد وتَبَصُّر لأنه كما كتب المسرحي اللبناني- الفرنسي جورج شحادة (الإسكندرية 1905-باريس 1989 ): ” إحذر من الذكريات مثل حذرك من الساعة المتوقفة”. وهذا الحذر نابع أولًا من أن هذه الذكريات مرتبطة بأحداث من الماضي توقفت في لحظة حدوثها وأسدل الستار عليها في أعماق ذاكرتي منذ زمن بعيد وتم نسيان تفاصيلها؛ بالإضافة الى إحتمالية تأثير الأنا المنحازة لهؤلاء الزعماء نتيجة تأييدي ومحبتي لهم آنذاك. وعلى الرغم من تلك المخاطر الموضوعية والذاتية سوف أسعى الى كتابة نص حيادي قدر الإمكان عن والد سامية كوامي نكروما من خلال مختارات منتقاة من سيرته الذاتية ومن وقائع علاقته مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر) وشعبها. النظر الى صورة الصديقتين المُصَوَرَتَيْن ليليان وسامية personnes photographiées تجعلك في حالة اِنْغِمَاس في عالم تصويري رمزي ينتقل الناظر إليها لا شعوريًا من الواقع المُصَوَرْ الى عالم إستعادة ذكريات الماضي. وهكذا تحولت الصورة المنشورة الى وسيط بين ما أراه وأدركه من الدَّالّ ( الإشارات الظاهرة المكونة للصورة) وَالْمَدْلُولُ ( المعاني المُضمرة للإشارات الظاهرة المُكونة للصُّورة التي تَدلُّ علَيْه أَوْ تُحيله وَتُرجِعُ إلَيْهِ). وكان توصيف عناصر الصورة الظاهرة أي الدَّالّ والكلام المرافق لها قاعدة الإنطلاق للكتابة عن الْمَدْلول وتأويله. وهذه الصورة دفعتني أيضًا للكتابة عن والد سامية الرئيس كوامي نكروما اول رئيس لجمهورية غانا وعلاقته مع مصر التي تلاشت أخبار أعماله مع مرور الزمن رغم أهميتها الكبرى في إستقلال غانا. وهنا تجلت القدرة الإيحائية للصورة في إطلاق عملية لا إرادية لإستذكار ذكريات مدفونة في زوايا الذاكرة ودهاليزها.
فتحية رزق نكرومي مع الرئيس عبد الناصر