أحافير الحب – 13 – الرحيل المُتَسَلِّلْ

كتب الدكتور سمير محمد ايوب

النشرة الدولية –

هيَ في مُقتَبلِ الشباب وإنْ لمْ تَكُنْ في مُقتبَلِ العُمرْ. بِرَغْمِ عَدِّ السنين بَقيتْ بِشعرها القصيرِ المُشَذَّبِ، وعَيَنيها العسليتين الغائرتين، وقامَتِها الممشوقةِ بِلا إبتذالٍ، جميلةٌ أنيقة، هامسةٌ تكاد أن لا تسمعَ لها صوتا،  مُسالِمَةٌ وإن بدت أحيانا نَمِرةً.

إلتقينا عبر حرفها الأنيق،  فهي ممن ينتمون لما يقولُون ويكتبون، بعيداً عن حقائقِ الحَسَبِ والنسَبِ والألقابِ والمناصب أو المكاسب.

إمرأةٌ مثل باقاتٍ كثيرة من نِساء جيلها، لم تُوَفَّقُ في معارجِ زواجها ولا في مدارجه قبل ان تُرزَقَ بِبَنينٍ. بعد الإفتراقِ دون مقابلٍ توارت عن صخب الحياة،  تصالحت مع الوحدة دون ان تفلت من أنيابها،  إستَظلَّتْ بِغياهبِ الصمتِ الذي لاذت به، وأجهزَالوقارُ المُتَشَعِّب على مبسمها الجذاب، وعلى الكثيرِ من الطقوسِ المُعلَنةِ لإيِّ فَرَح.

حين كنا نلتقي وكثيراً ما كُنَّا، بالرغم من قُوَّتِها في إخفاءِ ما بِدَواخِلِها،  كنتُ أحِسُّ بلوعةِ الحَزَنِ الراكدِ في عينيها، صَمْتُ شفتيها المُكتَنِزَتين، كان يختزلُ شظايا إبتساماتِها ويُخَبِّئُ حيرةً غير منطوقة.

عصرذات يوم ربيعي، في ظلال قَصبِ وادي شُعيبٍ  المُتَهادي على حوافِّ مدينةِ السلط  في بلقاء الأردن، كان كلُّ ما فيها صامتٌ، ولكن عينايَ كانت قد لامست بقايا ضَباب دمعٍ في بِحار عينيها، حتى خِلْتُ أن أذنايَ تلتقطُ وجعَ الدمع المثرثر فيهما.

إحتَضَنَت أصابعها ألمرتعشة  سيجارتَها بحنانٍ بَيِّنٍ ، وهي تحدثها بشفاهٍ مُرتعشةٍ ، مُتغافلةٌ عن وجودي قبالتها ، قالت بصوت تَبَيَّنْته بشكلٍ جليٍّ لِقُربي من أصابعها وشفتيها: قلبي ما زال مُمْتَلئاً به،  أرهقني رحيله، غيابه يزيدني تعلقا به. من عادتي ان أشتاقه كل ليلة،  تارةً بصمتٍ ، وكثيراً بشغبٍ خاصٍّ به. ليْتَه يعلم أني ما زلتُ راضيةً  عنه.

أكْمَلَتْ تُحدِّثُ سيجارتها التي إنطفأت جمرتها: كنتُ برضاً صادقٍ قد رَجَوته  : إذا ما مَلَلَتَ مِني يوماً ، ولم أعدْ لإيِّ سببٍ أستَحِقك ، ووجَدْتَ من تَحتلُّ بإمتيازٍمكاني، لا تتجاهَلْني ولا تختلق أسباباً أو تفتعل مشاكلَ بيننا. فقط تَجرَّأ وأخبرني أنك مُنسَحِبٌ أو حتى راحلٌ. سأحاول حينها قدر ما أطيق، تَعَلُّمَ كل فنون النسيان،  لِتَمضي بقايا الحياة بسلاسةٍ دونَك.

إلْتَفَتَتْ بِجُرأةٍ مُحببةٍ إليَّ وكانت تنظر في الافق البعيد هناك ، وكأنها فَطِنَت فجأة لوجودي أمامها،  قَفَزَتْ واقفةً كظبيةٍ داهمها خَطَر، وأكملتْ بين يديَّ بوحَ روحِها، وهي تَسُد الأفقَ ألممتدِ غرباً أمامي ، قائلة : كنتُ أحتملُ تقلباتِ مَزاجِه وقَسوتِها،  كان مُهتماً بي وصادقاً معي، غيوراً عليَّ . وتابَعَتْ مُتسائلة : قل لي بربك ، ما بَدَّلَهُ ؟ ما أبْعَدَهُ عني ؟! لِمَ بقسوة تَسَرَّبَ وانسحب ؟!

لم أُجِبْها كأني لم أسمع ، فأكمَلَتْ تقول : لم أستسلم . إختليت بذكرياتِنا وصافحتها على أمل. لامَسْتُ وقائعَ إنسحاباته. تَمَثَّلْتُ وقائعَ رحيله . فَتَداخَلَتْ المرايا . لَيتَ مُحاولاتي قد بَقِيَتْ بِلا أثَرْ . فقد أسأتُ للمشهد أكثرَ مِمَّا أصلَحْتُ.

هنا ، كزرقاءِ اليمامة رأيتُ سَيْلاً من الأسئلة ، تُطِلُّ طلائِعُهُ من تضاريسِ عيونها وإرتجافاتِ رموشها. فإستبقتُ هذا السيل مُنتصباً أمامها. تأبَّطتُ ذِراعَها وقُلت وأنا أحُثها على المسيرِ بإتجاهِ مقامِ النبي شُعَيْبٍ القريبِ منا ، قلتُ وكأني أُحادِثُ شَبحاً حولَنا : الحبُّ كهويةٍ مُتْعِبٌ يا سيدتي،  والحب كَقِيَمٍ نَقمةٌ فارقةٌ. في الرحيلِ المُتَسَلِّلِ لأيٍّ من رعاياهُما ، حِكايَةٌ وروايةٌ . ما عليكِ الآنَ يا إمرأة . هيَّا ، مع صوتِ فيروز الآتي مع المدى، جَدَلُ قلبك وعقلي ، بِحاجة ماسةٍ للكثير من القهوة . فالحديثُ قد يَطولْ!!!

زر الذهاب إلى الأعلى