ترقيم حريقٍ لم ينته
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
في مثل هذ الوقت قبل 12 سنة (31 آب 2010)، أنهى الرئيس الأمريكي باراك أوباما، المهمة القتالية الأمريكية في العراق التي تمثلت باحتلال دام سنوات، قائلاً: ”حان الوقت لطيّ الصفحة“.
لكن الانسحاب لم يكتمل، وصفحة العراق ظلت مفتوحة لطهران تستخدمها أحياناً للتفاوض بالوكالة مع واشنطن أو في الضغط عليها بتوصيل العراق (ومعه المنطقة) إلى حافة الهاوية، كما حصل هذا الأسبوع من استعراضات مسلحة دامية بين الفصائل الشيعية، لم تتوقف إلا بعد أن وصل البلد إلى عتبة جهنم.
قيل إن طهران استثمرت الاقتتال العراقي الداخلي في ربع الساعة الأخير من اشتباكها مع إدارة الرئيس جو بايدن بشأن الملف النووي، لتنتزع من واشنطن تنازلات تشطيبية.. وفي هذا القول ما يشبه المنطق السياسي الحامض والمعزّز باحتراف إيراني في فنّ الوقوف على الجُرف.
لكثرة سرعة توالي المفاجآت في الجولة الأخيرة من الاحتقان الطائفي بملعب الطائفة الشيعية في العراق (وهو من فصيلة الاحتقانات القابلة للانتشار في المنطقة)، فإن إعادة ترقيم مشاهد الحريق على مدى الشهور العشرة الماضية، تصبح ضرورية في التمييز بين الجوهر والعرض.
الجوهري الأخير الذي استخدمته إيران في دفع العراق إلى الحافة، وبالتالي ترهيب الولايات المتحدة وهي توشك على تقفيل مفاوضات فيينا الخاصة بالنووي، كان ورقة المرجعية الشيعية، هل هي في النجف أم في قم؟
يوم الاثنين الماضي، خرج المرجع الديني للتيار الصدري، كاظم الحائري، الذي يعيش في قم منذ سنوات، ليعلن فجأة اعتزاله العمل المرجعي (بدواعٍ صحية)، موصياً أتباعه المفترضين في العراق باتباع المرشد الفقيه في إيران، علي خامنئي.
توقيت الخطوة، التي يستحيل أن تكون حصلت دون إيعاز أو على الأقل موافقة إيرانية، كان ثقيلاً ومربكاً على مقتدى الصدر؛ فمرجعية الحائري للصدريين كان قد أوصى بها المرجع الراحل محمد صادق الصدر (والد مقتدى) قبل أن يُغتال في عهد الرئيس صدام حسين.
بيان تنحّي الحائري ألغى مرجعية الصدريين التي كان قد أقامها مقتدى الصدر في قرية ”الحنانة“ من أعمال النجف، وجعل المرجعية في قم كما هي بالنسبة لحزب الله اللبناني.
أكثر من ذلك، فقد ضمّن الحائري بيانه خطاباً لمقتدى الصدر وأبناء الشهيدين الصدريين، محمد صادق الصدر ومحمد باقر الصدر (مؤسس حزب الدعوة الإسلامي الشيعي)، أوصاهم فيه أن يعرفوا أن مجرد الادعاء أو الانتساب للشهيدين لا يكفي..“فمن يتصدى للقيادة باسمها وهو فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة، هو في الحقيقة ليس صدرياً مهما ادعى أو انتسب“.
كانت رسالة أكثر من واضحة لمقتدى الصدر وهو في ذروة معركة كسر عظم مع الإطار التنسيقي بقيادة نوري المالكي، على أهلية قيادة الشيعة في العراق، وعلى الحق المتنازع بينهما على تشكيل الحكومة.. رسالة بأن إيران قامت بعزله دينياً بعد أن كانت عزلته سياسياً بتشكيلات مسلّحة من وكلائها.
هي تصفية حسابات متراكمة في ذاكرة مشتركة حيّة، فقد كان قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني، قد وصل العراق في 16 يناير الماضي بمهمة ”التوفيق بين الفصيلين الشيعيين والإطار التنسيقي، وإعادة ترتيب البيت الشيعي العراقي وفق المعادلات السياسية المعتمدة منذ حرب العراق 2003.
في اليوم التالي وبعد الاجتماع مع المالكي الذي يرى أن له الحق بالأغلبية في تشكيل الحكومة، التقى قاآني بالصدر الذي رفض السيناريو الإيراني في التشكيل وتوزيع المناصب، كما رفض التخفيف من شروطه التي كان قد طلب فيها إبعاد المالكي من التوليفة الحكومية الجديدة.
بعد ذلك بأيام، صدر من التيار الصدري بيان بتغريدة تقول إن ”القرار السياسي والديني الشيعي محصور بمدينة النجف، حيث في ضواحيها بقرية الحضر مقر مقتدى الصدر.
القرار لم يفاجئ قم فقط، بل أغضب أتباع الإمام علي السيستاني، في مقره المرجعي.
في سلسلة المفاجآت التي ما فتئت تطوّح الانسداد العراقي المتواصل منذ عشرة شهور تلت انتخابات برلمانية فاز فيها الصدريون بنسبة لا تكفي لضمان تشكيل الحكومة، جاءت (في حزيران) خطوة انسحاب الكتلة الصدرية من البرلمان، وهي التي تلاها الطعن في شرعية المجلس الحالي، والدعوة لانتخابات جديدة في سياقات أمسكت برقاب بعضها وصولا إلى تعطيل السلطات الدستورية وما رافقه من دماء.
في حلقة وسيطة من هذا الحريق، جاءت (في أواسط تموز الماضي) مفاجأة التسريبات الصوتية التي نشرها الصحفي المقيم في الولايات المتحدة رئيس المنظمة الأمريكية العراقية لمكافحة الفساد، علي فاضل.
خمسُ تسريبات من ”كعدات“ كان قد تحدث فيها نوري المالكي بقضايا تفجيرية وبلغة من الدبش الاتهامي، لم تترك أحداً من السياسيين الذين يتصدرون مجاميع النزاهة أو الفساد، إلا وأظهرته بأنه إما طارئ أو عاجز أو ضالع في الوحل.
الغريب أن أحداً من ذوي الصلة أو الكفاءة في فحص تزييف الوثائق الصوتية لم يقم بهذه المهمة مع تسريبات لها من يشك فيها.. وكان يمكن لهذه التسريبات أن تحرق المالكي وتنهي تاريخه السياسي الذي كان قد وصفه السفير الأمريكي الأسبق في العراق، زلماي خليل زاد، بأنه سياسي بالصدفة.
يقول زاد: ذات يوم دخل عليّ في السفارة خبير العلاقات العامة والتركيبات السياسية، جيف بليز، حاملاً رزمة من السير المهنية للاختيار من بينهم رئيسا للحكومة العراقية، وقال لي: ما رأيك بنوري المالكي؟“وكان خيار صدفة أيدته إيران، وما زالت ترعاه حتى وهي تدفع العراق في حريق وصل هذا الأسبوع إلى حافة الهاوية، وما زال الرهان مفتوحا على قدرته في الاستدامة.
الفرق بين النهجين الإيراني والأمريكي في إدارة الملفات ذات الصلة بالشرق الأوسط، ومنها النووي، أن لطهران ذاكرة مؤسسية موصولة في رعاية وكلائها، بينما ذاكرة واشنطن يستهلكها تبدّل الأولويات.