المسرحي الكردي زاهر آبا راش: المسرح العربي يحتاج إلى التحرر من سجن النخبة
بينما يحارب المسرحيون العرب الرقابة والتضييق توظف أوروبا المسرح لدمقرطة الشعوب
النشرة الدولية –
العرب – حنان مبروك –
درس المخرج المسرحي الكردي زاهر آبا راش في معهد الفنون الجميلة في إقليم كردستان العراق، ثم التحق بمعهد البيداغوجيا في السويد ليثري تجربته المهنية في المسرح بالتخصص في دراسة السيكودراما والمسرح الارتجالي أو الانفعالي ومسرح المقهورين. وهو حاليا أحد الفاعلين في القطاع الثقافي في السويد أين يقيم منذ سنوات، حيث يعمل في بيت الثقافة، المؤسسة التي تحدد السياسات الثقافية للبلاد، وله اطلاع واسع على التجارب المختلفة في المسرحيْن العربي والغربي. “العرب” التقت هذا الفنان وحاورته حول تجربته الفنية ورؤاه في المسرح العربي.
تثبت بعض الأسماء العربية والكردية المقيمة في المهجر أن تلك الأوطان “ولاّدة”، تهب الحياة لأفراد قادرين على الإسهام في تطور المجتمعات، رغم أن قدرتهم تلك تظل غريبة عن أبناء جلدتهم، وهم ينظرون دائما بعين المقارن لما يجدونه في وطن احتواهم ولما يأملون حدوثه في وطنهم الأم.
زاهر آبا راش هو واحد من هؤلاء، فهو فنان كردي من مواليد كردستان العراق، هاجر منذ سنوات إلى السويد، ليصبح واحدا من الفنانين والباحثين النشطين في البلاد، حيث يعمل في مؤسسة تعنى بوضع السياسات الثقافية للبلاد، لكنه سخّر وجوده هناك لخدمة المقهورين والمعنفين والأقليات وكل من كان ضحية في يوم ما، انطلاقا من إيمانه بأن الفن يمكن أن يداوي الفرد ويصلح الشعوب ويغير الأفكار والسياسات.
فرق بين عربي وغربي
يقول آبا راش في تصريحه لـ”العرب” إنه “في 2015 شهدت السويد حركة هجرة كبيرة من عرب وأكراد نحوها، قبلها شهدنا في العام 1991 هجرة واسعة من كردستان العراق نحو أوروبا، وهي حركة هجرة حاولت السويد الحد من مخاطرها على تماسك المجتمع المحلي بتوفير وظائف تتماشى مع مهارات كل فرد مهاجر أو لاجئ، ومحاولة إدماج المهاجرين داخل المجتمع، لكن تلك السياسات لم تنجح والعائق الكبير في ذلك كان اللغة. لذلك وجد الحل في الاهتمام بالجانب الثقافي، فالسياسة الثقافية بإمكانها تقديم حلول عملية تدمج الفرد في المجموعة وتساعده بعد ذلك على اتقان اللغة بالممارسة والتعرف على العادات والتقاليد للبلد المضيف له”.
ويتابع “كنت يوما ما واحدا من هؤلاء، أعرف ما مروا به، والفضل في اندماجي داخل المجتمع يعود إلى إحدى المهاجرات مثلي، التي كانت يوما ما محاميتي ثم صرنا نشتغل في المجال نفسه، ونفكر دوما في كيفية إدماج المهاجرين داخل المجتمع السويدي بتوظيف الفن وأساليبه”.
درس آبا راش الفنون الجميلة في كردستان، وكانت له تجربة كممثل ومخرج لعدد من الأعمال منها “الغجر”، “بابلو نيرودا”، “النهر” و”كاليغولا” وغيرها، وكذلك الأمر في السويد. وهو منذ سنوات يحاول الاطلاع على التجارب العربية في المسرح والسينما والدراما.
ويقول إن أول اختلاف صارخ بين العقليتين السويدية والعربية في التعاطي مع الفنون عامة يكمن في الدعم المالي “ففي السويد تذهب حصة الأسد من الميزانية السنوية للبلاد إلى الصحة والتعليم والثقافة، على عكس الدول العربية التي لا تهتم بهذه المجالات كما يجب، وخاصة بمجالي التعليم والثقافة. وربما حين تنضم السويد إلى حلف شمال الأطلسي يتغير الأمر بالنسبة إليها كذلك وتصبح النسبة الأكبر من الميزانية لوزارة الدفاع”.
الدول العربية تتعامل مع الفنانين من كردستان العراق بتحفظ بسبب القمع الذي كان يفرضه النظام العراقي السابق
كما يرى أن الدول العربية لا تهتم كما يجب بدور الفنون في تشكيل الوعي الإنساني الفردي والمشترك، فهي حسب نظره، لم تتحرر بعد من النظرة الدونية تجاه الفن والفنانين.
ويوضح أن “المسرح في الدول العربية لا يسير على الوتيرة نفسها، فالمسرح التونسي مثلا يعدّ رائدا مقارنة بغيره من التجارب المسرحية، وفيه أعمال تتجاوز فكرة المسرح التقليدي وتسعى للتأسيس لمجتمعات مسرحية، أي لأفراد يفهمون الفنون ويدركون مدى أهميتها في المجتمعات”، لكنه يؤكد أن المسرح العربي عامة “لا يزال موجها للنخبة فقط، ولمن يملكون مفاتيح تلقي وفهم وتحليل المنتج المسرحي، في حين أن المسرح في أوروبا عامة والسويد بشكل خاص، قد تجاوز تلك المرحلة بكثير حيث صار جزءا من حياة المواطن، ومن حياته ومساره في التعلم، فقاعات المسرح تتوزع في كل المدارس، وحصة المسرح من أكبر وأطول الحصص الأسبوعية التي تمهد لدمقرطة الشعوب والارتقاء بها”.
ويشرح الأكاديمي الكردي “أنا ممّن يساهمون في كتابة المناهج التعليمية، ونحن ندرس كيف نستخدم المسرح في دمقرطة المجتمع وترسيخ الديمقراطية في الناشئة، فعلى سبيل المثال، نحن نراهن على المسرح الانفعالي في تعليم الأطفال، أي شيء يمكن أن يخلق صراعا وتوترا بين الأفراد والشعوب نناقشه مع الطالب في حصص مسرحية تفاعلية على شكل لعبة، تجعل الطفل يتعلم بسرعة ويتحرر من مخاوفه في التعبير عن رأيه وموقفه”.
وحسب رأيه فإن “هذه الطريقة تمكن الطفل من صقل وتنمية قدرته على الفهم والتحليل والتعبير عن رأيه وموقفه بصراحة وبوضوح والأهم دون خوف أو تردد وهو ما لا نجده عند الطفل العربي الذي يمنع أحيانا من البوح برأيه طوال حياته”.
ومن مثل هذه التوجهات صار المسرح وسيلة للحوار في المدارس السويدية، وبجانب العمل المسرحي تستخدم الدراما كأداة للنقاش والتعليم. كأن يُقترح على الطلاب موقف فيه تنمر أو سخرية أو انتهاك للحقوق، ويطلب منهم تقديم صورة عن رد فعلهم تجاه أي عنف من حولهم، ليتم نقاشها بالمنطق ووفق القانون المحلي.
ويقول المخرج الكردي “نحن نستغل المسرح لنعرّف الأطفال والآباء بحقوقهم وواجباتهم في المجتمع أيضا”، فيكون الوضع كما وصفه ذات يوم الكاتب والمخرج الأفريقي بريت بيلي جين بقوله “أينما كان هناك مُجتمعٌ إنساني (…) تتجلى روح المسرح التي لا يمكن كبتها”.
وبالنظر إلى حركة الفعل المسرحي، شهدت العروض المسرحية تطورا بتطور الشعوب، فبعد أن كان العرض خارجيا في فضاءات مفتوحة، صار المسرح مع اكتشاف الكهرباء مسرح غرفة، ثم صار مسرحا متلفزا ليصل في زمن كورونا إلى مسرح افتراضي، ونحن نرى الآن محاولة لتحرير المسرح والعودة به نحو مسرح الشارع وكسر حالة الارتباط الوثيق بين المسرح والفضاءات المغلقة.
ويقول آبا راش إن “المسرح التفاعلي هو الأصل، ففي كل مجتمع لا بدّ من عملية تفاعل بين الممثل والجمهور وجعلهما يتبادلان التأثير والتأثر، والجمهور الغربي استطاع تقبل هذا النمط المسرحي، لكن الجمهور العربي لم يصل إلى تلك المرحلة بعد، وهو لا يهتم بالمسرح أبدا، وهناك فجوة كبيرة بين الجمهور والممثلين. باختصار، بإمكانك أن تنجز مسرحا دون ممثل أو كهرباء وصالة عرض لكن لا يمكن أن تنجز مسرحا دون جمهور”.
وفي السياق نفسه المتعلق بالاختلاف القائم في المسرح بين الغرب والعرب وبين المسارح العربية نفسها، يوضح آبا راش أن المرأة الكردية لا تختلف كثيرا عن العربية، إذ لم تكن في السابق متحررة شأنها شأن المرأة العراقية أو العربية عامة، وبالتالي كان يمنع عليها العمل في الفن، لأنه ينظر إلى الفن والفنانين على أنهم لا يفيدون المجتمع، ولا دور لهم في تقدم المجتمعات، ولم تكن الدولة تدعم المسرح والمسرحيين ماديا للاستمرار، ثم مع بداية حركات التحرر النسوي صارت المرأة الكردية اليوم ممثلة ومخرجة مسرحية.
ويقول “نضال المرأة الكردية جنبا إلى جنب بجوار الرجل جعلها تتعلم المسرح وتكتسب قوة المسرح من خلال تجنيدها في الجبال خلال انتفاضة الشعب الكردي (1991)، ومنذ عام 1916 تكلم المسرح عن حق المرأة في التعليم وارتياد المدارس، وبمجرد تأسيس منظومة مدارس في البلاد، ظهر المسرح المدرسي الذي أنشأ ممثلين منذ نعومة أظافرهم، ونما وتطور مع نضج الطالب وتعلمهم عاما تلو الآخر”.
ويتابع “رجال الدين في ذاك الزمن كانوا مدرسين وعقولهم وأفكارهم وسطية لكنهم يعيشون محكومين بضوابط العادات والتقاليد، ثم سرعان ما تأثروا بدعوات تحرير المرأة، فشجعوا بناتهم على التعلم ومن ثم ممارسة المسرح”.
وأضاف “في زمن صدام كانت الأعمال المسرحية تتكلم عن الحرية ورموزها وبعد انهيار النظام اشتغلنا أكثر على مواضيع أخرى منها نقد الظواهر الحياتية والدفاع عن حقوق المرأة وانتقاد المؤسسة الأبوية، وانتقل المسرح من الخطابات الثورية الجماعية إلى الذاتية والفردية”.
مشاركات نادرة
المسرح هو أبو الفنون وأولها منذ أيام الإغريق والرومان حيث كانت المسارح هي الوسيلة الوحيدة للتعبير الفني. وللمسرح الكردي خصوصية حيث تعود بدايته إلى القرن الماضي عندما حاول بعض المسرحيين الكرد ترجمة الأساطير الكردية المعروفة إلى أعمال مسرحية وكذلك محاولة ربط الفلكلور الكردي وتراثه بالعمل المسرحي. وتميز هذا المسرح بكونه ارتبط دوما بما عاشه الأكراد من محن واضطهاد. وهو اليوم لا ينفصل كثيرا عن الواقع لكنه لا يحضر كثيرا في المهرجانات المسرحية العربية.
وحضر آبا راش في الدورة الرابعة لمهرجان مسارات المسرحي في تونس بصفته مسرحيا وأكاديميا عراقيا – سويديا وقدم طوال يومين ورشة في المسرح الانفعالي/ الارتجالي، كما عرّف بأهمية السيكودراما (المسرح العلاجي) المجال الذي يشتغل فيه منذ سنوات وأكسبه خبرة في التعامل مع الضحايا والمساعدة في استشفاءهم بالفن.
الدول العربية لا تهتم كما يجب بدور الفنون في تشكيل الوعي الإنساني الفردي والمشترك
ويقول المخرج الكردي “الكردستانيون لا يشاركون في المهرجانات بشكل جماعي أي من خلال فرق مسرحية أو هيئات ثقافية ومسرحية رسمية، بل يحضرون نادرا بصفة فردية وعادة يتم تعريفهم بجنسية البلد الذين هم قادمون منه وذلك لأسباب أيديولوجية قومية. فالدول العربية ومؤسساتها سواء الرسمية أو الخاصة لا تقبل التعامل مع الفنانين من كردستان العراق، بكل وضوح وشفافية، ولا زالت تتعامل معهم بتحفظ كبير بسبب إرث القمع والرقابة الذي كان يفرضه النظام الدكتاتوري السابق في العراق والتعاطي التركي مع الملف الكردي”.
ويتابع “الرئيس العراقي السابق صدام حسين مثلا كان يمنع مشاركة الفرقة المسرحية الكردية لتقديم الفن الكردي والتعريف به خارج العراق، خاصة لأنه مسرح ملتزم بقضايا الأكراد، في حين يخرج النظام وأعوانه أمام الملأ ليؤكدوا أن لا فرق بين الطوائف في العراق (…) وحتى بعض الفنانين صاروا يحملون هذه الأيديولوجيا القومية ويتبنون فكر المؤسسات الاستبدادية لا إراديا”.
وقبل تونس كانت لآبا راش تجربة في المغرب، حيث قدم محاضرات في عدد من جامعاته، عدا عن الورش الفنية التي يؤطرها خلال مهرجانات ولفائدة مؤسسات خاصة ورسمية مختصة في المسرح، وهو يقول إنه “في تونس والمغرب مثلا، لا زالت السلطة تخاف من إعطاء فيزا لفنانين مقيمين في كردستان بل أحيانا تدعوهم باسم الدولة العراقية. وبصفتي كرديا عراقيا شاركت في عشرات من المهرجانات العربية، ووصلت إلى مرحلة أنني أطلب منهم اعتباري فردا لا يمثل إلا نفسه، سأكون سعيدا لو قدموني بصفتي كردستانيا، وإن لم يكن ذلك فالأفضل أن يعتبروني مواطنا سويديا”.
ويضيف “أنا أخجل أحيانا من عراقيتي بسبب ما يحصل من أزمات سياسية متلاحقة، فالدولة لم تخرج من مربع الاستبدادية، والشعب العراقي فقد مجده، العراق كان عظيما بكل حضاراته، لكن اليوم صرنا نرى خلافات طائفية بالأساس تدمر البلاد والعباد”.
وعبّر محدثنا عن أمله أن تحظى الحركة الفنية في كردستان بفرصة للانفتاح الحر على العالم العربي، ولا تظل أخبار كردستان العراق والأكراد في كل مكان رهينة التحليلات السياسية ونشرات الأخبار، فـ”هناك موجة كبيرة في الفن بكردستان وخاصة المسرح والسينما والدراما، وهي حركة إنتاج أكبر حتى من تلك الموجودة في البلدان العربية. والإنتاج الكردي في هذه القطاعات الثلاثة أكثر بكثير من كل المناطق العربية. وحتى حركة الترجمة والنشر تشهد الأمر نفسه”.
ويشدد آبا راش “نحن لسنا أقلية منبوذة، وإنما نعد الأصل في الكثير من الفنون، مثل عبقري الموسيقى متعدد المواهب زرياب الذي ابتكر فن الذوق العام والذي يسمى اليوم بالإتيكيت، والذي مثل حلقة وصل هامة في نقل مظاهر الحضارة الإسلامية والشرقية إلى الأندلس ومنها إلى أوروبا والعالم أجمع. وحتى المقامات الموسيقية أسماؤها كردية، ونحن من الرواد في العديد من المجالات، لكن أغلب الشعوب لا تعرفنا ولم تكتشف بعد موروثنا الفني والثقافي”.
ويمكن القول إن زاهر آبا راش واحد ممن يؤمنون بانفتاح المسرح على كل الفضاءات، والاحتمالات الممكنة للنهوض بالشعوب، وبتحرر الفنون من القيود السياسية لا بل جعلها قائدة للسياسة، وهو بعمله في المسرح الانفعالي وإسهامه بورشات ودراسات حول دور المسرح في دمقرطة الشعوب يعيد إلى الأذهان قول المسرحي الروسي الشهير قسطنطين ستانيسلافسكي “ما لم يستطع المسرح أن يعظمك، ويجعلك شخصًا أفضل، فعليك الهروب منه”.