صورة ليز تراس بالعدسة الزووم
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

كان منظر الرئيسة الجديدة للحكومة البريطانية، ليز تراس، وهي تلتقي الملكة يوم الثلاثاء الماضي لتستكمل شكليات التعيين، منظراً خادعاً.. أغلب الظن بسبب الزاوية التي جرى منها التقاط الصورة.

ظهرت ليز (إليزابيث) رئيسة الحكومة عملاقاً في مقابل الملكة إليزابيث الثانية، التي حافظت طوال الوقت على مسافة باردة بينهما.

قليلٌ من بين الذين لَفَتهم المشهد الخادع وعقّبوا عليه، استذكروا بأن تراس عندما كانت طالبة في أكسفورد كانت عضواً في حزب الديمقراطيين الأحرار تدعو لإلغاء الملكية..

وحتى الذين يستذكرون ذلك، فإنه لا يعني لهم شيئاً كثيراً ما دامت البنت عادت وانخرطت في السيستم الذي طالما اعتمد خريجي أكسفورد خزاناً لتجديد القيادات ورعايتها بسقاية الأحلام الإمبراطورية لديها.

في سنتها الجامعية قبل الأخيرة، اندرجت ليز تراس في حزب المحافظين، ورغم أنها ظلت حتى اليوم موصوفة بالأمية الاقتصادية والانتهازية السياسية وإثارة الملل، إلا أنها وجدت في ”المؤسسة“ مَن يوصلها لقمة السلطة.

هي من طرفها ألبست نفسها ثوب مارغريت تاتشر، التي ترأست حزب المحافظين 15 سنة (1975-1990) وتولت الحكومة 11 عاماً، استحقت بها لقب ”المرأة الحديدية“، قننت لاقتصاد السوق وأعادت لبريطانيا بعضاً من الحضور القيادي العالمي الذي أضاعته خلال الستة عقود الماضية.

مع صورة تاتشر، وقد كرّستها بنوعيات الملابس والقبعات التي كانت تتعمد ارتداءها وهي وزيرة للخارجية (خلال العامين الماضيين)، ذهبت ليز تراس بعيداً في إظهار ولائها للوبي الإسرائيلي الذي كان يغدق في التمويل لدرجة تعميم الانطباع بسيطرة استثنائية على وزارة الخارجية البريطانية.

وعدت تراس بالنظر في إمكانية نقل السفارة البريطانية من تل أبيب الى القدس، كما سبق وفعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.. كما وعدت خلال زيارتها إسرائيل العام الماضي، بأنها ستفعل كل ما يمكن فعله من أجل منع إيران من حيازة السلاح النووي.

هذه هي اللقطة بالعدسة العادية للرئيسة الجديدة للحكومة البريطانية، كما بدت للمشاهد الشرق أوسطي وهو يحاول، خلال اليومين الماضيين، قراءة ما يمكن أن يستجد على علاقات دول المنطقة مع بريطانيا، في عهد ليز تراس.

تبديل العدسة العادية بعدسة التكبير البصري (زووم)، يمكن أن يثري صورتها بأكثر من انطباعات العبط وقلة الاحتراف السياسي أو الانحياز المطلق للوبي الاسرائيلي.

فهي عضو مؤسس في مجموعة اليمين الجديد (نيو كونز) داخل حزب المحافظين. وفي عام 2012، كانت مؤلفاً شريكاً في إصدار كتاب ”فك قيود بريطانيا“ الذي اعتُبر بياناً تأسيسياً لتيار جديد يستهدف استعادة الأمجاد، من خلال إعادة تركيب الاقتصاد البريطاني المتداعي.

كانوا 38 نائباً من المحافظين (بينهم السيدة تراس) فيهم الأهليّة كقادة محتملين للحزب، وكان التقدير أن هذا البرنامج المسمى ”مجموعة المشروع الحرّ“ سيأخذ وقتاً غير طويل ليصل إلى الحكم، ربما مع عام 2019.

وقد وصل اليوم، لكن بعد أن تكشف أنه ربما كان جزءاً من نظام عالمي جديد صاغه المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) بالشراكة مع الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا.

في دورته السنوية 2022 بنهاية يناير الماضي، اختار منتدى دافوس عنواناً للدورة ”التاريخ عند نقطة تحوّل“.. فيها جرى تقنين مبادرة باسم ”إعادة التركيب الكبرى“ للعالم، تذهب إلى أن النظام العالمي الجديد الذي فرضته جائحة كورونا، يقوم على تحرير الاقتصاد بإعطاء القيادة الأممية للشركات الخاصة، المتعددة الجنسية، على حساب المؤسسات الحكومية والقطاع العام.

ومع أن مشروع إعادة التركيب العام بدأ التفكير فيه بنهايات جائحة كورونا، إلا أن توقيت طرحه مع حرب أوكرانيا، كان صدفةً من النوع الذي لا يبلعه أصحاب نظريات المؤامرة.

أشاعوا أن التوقيت الأممي استحق للدخول في نظام عالمي جديد، تريده روسيا بطريقتها وأحلامها الخاصة، لكن بريطانيا والولايات المتحدة والدول الغربية تريده نظاماً اقتصادياً السلطةُ العليا فيه للشركات المتعددة الجنسية على حساب دولة الرفاه التي انتهى عمرها مع كورونا وحرب أوكرانيا.

ما علاقة ذلك كله بتوقيت وصول ليز تراس لرئاسة الحكومة البريطانية، وهي العضو المؤسس في مجموعة المحافظين البريطانيين الجدد أصحاب ”المشروع الحر“ الذي يريد دفن ما بقي من دولة الرفاه واستبدالها بسيطرة الرأسماليين الذين يتحكمون بالأحزاب والسياسات الخارجية من خلال التمويل والإعلام؟

كان يمكن لاستقصاء هذه العلاقة الغامضة أن يكون رفاهية مسمومة لولا أن العالم كله، وليس الشرق الأوسط وحده، يؤمن عميقاً وبشكل متوارث بمقولة الأوروبيين المعروفة التي تصف بريطانيا أنها غدارة ”Perfidious Albion“.

بمعنى أنها بعد أن أضاعت هويتها الإمبراطورية ما زالت تحلم بنظام عالمي جديد يعيد لها الذي لا تستطيع تنفيذه وحدها، مع فارق يراهن عليه الكثيرون الآن، وهو أن الخلل الذي ضرب السيستم البريطاني في السنوات الأخيرة كان عميقاً، وأن تراكم التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه التركيبة البريطانية قد لا يسمح لرئيسة الحكومة الجديدة بأن تعيش في 10 داوننغ ستريت لأكثر من بضعة شهور.

زر الذهاب إلى الأعلى