المتاحف المتجولة تزور الأفراد لتعرفهم بالتاريخ وفصوله

النشرة الدولية –

العرب – حنان مبروك –

ترسم أغلب الدول إن لم يكن كلها سياسات ثقافية تهتم بالأنماط التقليدية للحفاظ على التراث الثقافي بشقيه المادي واللامادي، ومن هذه الأنماط، المتاحف التي تعدّ صورة مصورة صغيرة وموجزة عن تاريخ البلدان والحضارات المتعاقبة عليها.

وفيما اتجهت بعض الدول نحو افتتاح متاحف تعنى بالمستقبل، وبتأثير التطور التكنولوجي المتسارع في الفنون، أصبح فيها الزائر هو “التحفة” والفنان والمتلقي في آن واحد، اختارت أخرى أن تنشئ “متاحف متجولة” تزور المواطن عوض أن يزورها.

وعادة ما تتخصص مثل هذه المتاحف في حقب تاريخية بعينها، فتحمل مقتنيات ثمينة ولوحات نادرة في حافلات كبرى مجهزة ومعدة للغرض، لتجوب بها المدن وتنظم بها معارض محددة المدة مسبقا هدفها تنمية الذائقة والحس الفني للناشئة والتعريف بتاريخ الشعوب.

ومن أبرز هذه المتاحف، المتحف المتجول الثقافي العراقي الذي يعد رائدا في هذا المجال حيث أسس منذ عشر سنوات، بمبادرة خاصة، ثيمته الأساسية تسليط الضوء على التراث والتاريخ القديم والحديث، إذ ركز على توثيق جميع الحضارات بالصور الافتراضية والمعلومات الموثوقة، ويضم المعرض آلاف الصور عن آثار العراق بشكل منهجي منظم، وهو متحف منفتح على جميع الفنون ومنها الفن التشكيلي والسينما وإبداعات الأطفال. ويخصص هذا المتحف المتجول مساحة للفنانين الراغبين في إقامة معارض لهم. ومع الوقت صارت لديه مواعيد ثابتة بأماكن انعقادها.ومن الأمثلة الناجحة أيضا، مبادرة “متاحف على الطريق” التي أطلقتها هيئة الشارقة للمتاحف منذ مطلع عام 2019، والتي نجحت في استقطاب نحو 12 ألف طالب وطالبة من مدارس الإمارة الحكومية، وذلك بعد استئناف جولاتها التي توقفت بسبب تداعيات جائحة كورونا في شهر نوفمبر 2021، وتعد المبادرة الأولى من نوعها على مستوى المنطقة، وهي عبارة عن حافلة تم تحويلها إلى متحف متنقل يحوي عدداً من المقتنيات النفيسة.

ويقول المشرفون على هذه المبادرة إنها تهدف “إلى تعظيم دورها كمراكز تعليمية غير رسمية، قادرة على الوصول إلى قلوب الطلبة وعقولهم بطرق فريدة ومبتكرة، حيث يتم عرض المقتنيات المختارة لهم في صور متنوعة وشيّقة ما يقود إلى تعزيز المعارف العلمية لديهم، خصوصا وأن المتاحف لم تعد مجرد أماكن لحفظ الكنوز التاريخية والتراثية والثقافية بل مراكز علمية هامة تسهم في نشر المعرفة والعلوم والتعريف بالتراث الإنساني في جميع المجالات”.

 

وتزور حافلات “متاحف على الطريق” المدارس البعيدة، لكنها حاضرة أيضا في قلب الفعاليات الهامة بالإمارة حيث كانت أولى المحطات التي وصلت إليها القافلة مسرح المجاز وذلك عبر مهرجان فعاليات الشارقة، وفي واجهة المجاز المائية “القصباء” من خلال مهرجان انعكاس، كما وصلت الحافلة إلى الجامعة القاسمية ومنتزه الشارقة الوطني.

وتنقسم حافلات “متاحف على الطريق” إلى ثلاثة أقسام تشمل قسم الاستكشاف، وقسم الابتكار العلمي، وقسم التعبير. وهي تقدم باقة من مقتنيات المتحف المتنقل، تشمل نموذجا من بوصلة ابن ماجد للعالم أحمد بن ماجد المولود في رأس الخيمة.

كما تستعرض مقتنيات أثرية تمتاز بها الإمارة، من بينها عقد من اللؤلؤ يعود إلى سبعة آلاف عام، باعتباره أقدم عقد تم اكتشافه في الإمارات حتى الآن، حيث تقول البيانات الرسمية إنه “تم اكتشافه مدفوناً في قبر في جبل البحيص، ويشير إلى الارتباط الحميم بين سكان الشارقة القدماء والبحر منذ آلاف السنين”.

وإلى جانب العقد تقدم الحافلة المبتكرة في قسم الابتكار نسخة طبق الأصل من إسطرلاب يعتبر أحد الإسطرلابات الخمسة المحفوظة في المتاحف العالمية، التي صنعها المؤرخ شمس الدين محمد صفار في عام 1477.

وفي قسم التعبير تطلع متاحف على الطريق زوارها على لوحات عدد من الفنانين، منها لوحة الفنانة الإماراتية نجاة مكي الحائزة على جائزة العويس “ندوة الثقافة والعلوم – دبي 1994” “كتب مركونة” وهي من الفن التجريدي، فيما يقدم قسم التعبير بعض المقتنيات الإبداعية كالحلية الشريفة وهي لوحة مستقلة تأخذ شكل تصاميم مزخرفة، ومؤطرة نقشت عليها مجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث.

في حال تونس، قد تكون المتاحف المتجولة، حلا مؤقتا ولم لا دائما، يعوض المتاحف المغلقة إلى حين افتتاحها مجددا

مثل هذه التجارب لم تنجح فقط في الخروج بالمتاحف من الأماكن المغلقة، ذات الحراسة المشددة، والتي تستوجب زيارتها أحيانا قطع آلاف الأمتار، بل أكدت أن المتاحف هي الأخرى يجب أن تواكب التطور السريع الذي يشهده عصرنا الحالي، ولا يكفي أن تتيح المتاحف زيارات افتراضية لمعارضها، وإنما أن تزور “المتلقي” أينما كان، فتنمي فيه الرغبة في ارتياد المتاحف ودراسة التاريخ، فمن لا يعلم تاريخ موطنه لا يمكنه فهم حاضره ولا توقع مستقبله.

وكاهتمام بأهمية المتاحف، اختار المجلس الدولي للمتاحف “قوة المتاحف” ليكون شعارا لليوم العالمي للمتاحف الذي يحل كل عام في الثامن عشر من مايو، ليكون فرصة للتواصل مع الجمهور بشكل قوي ومؤثر والتعريف بالتحديات التي تواجه المتاحف في جميع أنحاء العالم.

ففي تونس مثلا، عوض أن نشهد متاحف مبتكرة، تراهن على دمج التكنولوجيا مع التاريخ، لم لا تكون لدينا متاحف متجولة تعيد الناشئة إلى الاهتمام بالفنون بعد أن أبعدتها الوسائل التكنولوجية عن الحياة الطبيعية، نجد أن أغلب المتاحف مغلق من سنوات، بعضها من أجل صيانة لم تنجز بعد بسبب البيروقراطية الإدارية وبعضها الآخر بسبب أن مقرات المتاحف أصبحت مبانيها غير صالحة للعرض. ولدينا الآلاف من اللوحات والمخطوطات الأثرية النادرة المحفوظة بشكل سيء يعرضها للتلف والاندثار. ولا تعرض السلطات ولا وزارة الثقافة سياسات جدية بمهل زمنية محددة لإيجاد حل سريع لذلك، رغم الحملات المتكررة التي يشنها عشاق المتاحف والمثقفون ضدها.

والمتاحف ليست فقط مقرا لاستعراض التاريخ وإنما لديها قوة في دعم المجتمعات والعلم والتكنولوجيا. ويسهم في تحقيق ذلك تنوع المتاحف نفسها ما بين متاحف علمية وأثرية وتراثية وتكنولوجية وغيرها. وهذا التنوع من شأنه أن يمنح المتاحف قوة في رفع الوعي بالقضايا المجتمعية التي تشكل تحديا لها، ومن أبرزها في الوقت الحالي قضية التغيرات المناخية، التي تطال الجميع في كل مكان.

ومن شأن المتاحف المتجولة في حال وظفت بطريقة جيدة أن تساهم في رفع وعي المواطنين بالتاريخ البيئي والإيكولوجي على مدى آلاف السنين وتنقل فكرة إلى الأجيال عن كيفية محافظة الإنسان على البيئة منذ عقود طويلة، فتمكنها من ابتكار طرق للحفاظ على استدامة المنظومة البيئية.

وفي حال تونس، قد تكون المتاحف المتجولة، حلا مؤقتا يعوض المتاحف المغلقة إلى حين افتتاحها مجددا، لتصبح بعد ذلك حلا دائما يدعم سياسة الدولة التي لا تولي للأسف أهمية للقطاع الثقافي، فحيثما التفتت وانتبهت سواء للمسرح أو السينما أو الأدب أو الفن التشكيلي وغيرها، ستجد أهل ذاك القطاع يشتكون من نقائص فادحة.

 

Back to top button