الضفة في اليوم التالي لعباس
بقلم: مصطفى أبو لبدة

مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

يقول المثل اليهودي (بالعبرية): ”أهم شيء بالنسبة لمَن يستخدم عقله، ليس مخه أو وثائقه أو خبرته، وإنما حدسه“.. ويقصدون به ذاك الإحساس المعاند للمنطق الشائع، الذي يأتيك عندما تسمع أو تشهد أشياء تتوالى خارج سياقها، فلا تعود تملك إلا أن تتوقف وتنصت لتقرأ الممحي.

شيء من هذا الذي يمتحن الحدس، عمّمه الإعلام الإسرائيلي – بدأب مبرمج خلال الأسابيع الماضية – فصنع رسالة كأنها تمهد لشيء استثنائي قادم في الضفة الغربية.

حصل ذلك في أعقاب جولة الاشتباك الأخيرة عبر حدود غزة، وهي التي شهدت افتراقاً مكشوفا في مواقف وسلاح حركتي حماس والجهاد الإسلامي، على نحو استدعى وساطة إيرانية بينهما تولاها أمين عام حزب الله، مع نصيحة بأن يتوجها للعمل المشترك في الضفة الغربية، استباقا لما سيحصل هناك في اليوم التالي لغياب الرئيس الفلسطيني محمود عباس.

في الأثناء، أقام الإعلام الإسرائيلي على تكرار بيانات أو تحليلات بمعدل مرتين أو ثلاث مرات أسبوعياً، تعمم بأن الضفة تقف الآن على عتبة مرحلة من العنف المسلح قد تتجاوز مواصفات الانتفاضة الثالثة. وتحت مظلة هذا الانطباع دخلت طائرات الدرونز (دون طيار) الإسرائيلية في يوميات المواجهة، فاتحة الباب لمستجدات نوعية محتملة من طرائق الحرب الشعبية التي استبقتها إسرائيل بوسمها بالإرهاب، وفي ذلك أيدتها الإدارة الأمريكية دون أن تشترط مراجعة ”قواعد الاشتباك“.

في 30 مارس الماضي، أطلقت إسرائيل ما سُمي بـ“عملية كسر الموجة“، وقصدت بذلك موجة العمليات النوعية الجديدة للمقاومة. وصفت الموجة وهذه المحاولات بأنها ”الحرب غير المعروفة، والقابلة للتوسع بسيناريوهات غير مسبوقة“، أغدقت عليها البيانات الرسمية الإسرائيلية تفاصيل رقمية من أعداد القتلى وعمليات التفشيل والتفكيك، ليصبح عام 2022 ”السنة الأكثر دموية في سجل الضفة منذ سبعة أعوام“.

طريقة الترويج المتتابع لهذا الحال المتفاقم التوتر، أثارت حدس الكثيرين في قراءتهم للممحي المستهدف من الرسالة الإسرائيلية بأن أوضاع الضفة الغربية دخلت مرحلة جديدة خصبة في الحسابات المفتوحة.

مركز دراسات الأمن الوطني الإسرائيلي، الذي يضم قيادات استخبارية وعسكرية متقاعدة، قرأ في الحملة الأمنية الإسرائيلية الموصولة تحرشاً يدعو لقلق المؤسسة الأمنية.

وكان رأيه أن سياقات المواجهة المتنقلة في مختلف أنحاء الضفة الغربية، تستنفر ”القوة الناعمة“ للفلسطينيين في قدرتهم ليس على زعزعة التوازن الديمغرافي والحياة الطبيعية في إسرائيل فقط، وإنما أيضاً خلخلة الديناميكية الإقليمية.

كان المركز واضحا في التحذير من أسلوب العمل الإسرائيلي الحالي ضد الهجمات في الضفة الغربية، كونه يوفر أرضاً مواتية لتكثيف روح المقاومة الفلسطينية في قلوب الجيل الشاب، وفي الوعي الجماعي للجيل الأصغر، يوفر لهم الدافع للانضمام في أي وقت تفلت فيه الأمور.

كانت وجهة نظر المركز، التي ما فتئ يروج لها منذ ثلاث سنوات، هي ضرورة تسريع الفصل، في شريط الأرض الضيق بين نهر الأردن والبحر المتوسط، إلى دولتين، وأن ذلك وحده الذي سيضمن لإسرائيل تحسناً مستداماً في موقفها الاستراتيجي يمنعها من الانزلاق إلى حل الدولة الواحدة التي كان يعمل لها رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو.

ذلك كما يروج المركز هو الذي يضمن لإسرائيل ما تصفه الدراسة بـ“إسرائيل يهودية ديمقراطية آمنة وأخلاقية“، ويضمن كما ترى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حلا بدولتين مستحقا، حتى وإن لم يحن وقت تنفيذه.

ما علاقة هذه الورشة الأمنية-السياسية التي يجري تصعيدها في الضفة، بالحملة الأخرى المتزامنة التي تعمم فيها إسرائيل الانطباع بأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أصبح جزءاً من المشكلة المتدحرجة، ولم يعد جزءاً من برنامج إدامة الوضع الراهن؟

جديدة نوعا ما هذه الجبهة التي حمّلت فيها إسرائيل الرئيس الفلسطيني مسؤولية أن أجهزته الأمنية لم تعد تقوم بالذي تم الاتفاق عليه في اتفاقيات أوسلو، وأنه بذلك تحول من ”شخص غير ذي صلة“ ليصبح هو المشكلة التي تتصدر الأولويات.

مدير الاستراتيجيات القانونية في منظمة مراقبة الإعلام الفلسطيني الكولونيل المتقاعد موريس هيرش، كان رأيه قبل أيام أنه ”حان الوقت لإدراك حقيقة بسيطة وهي أن السلطة الفلسطينية استهلكت وظيفتها، وأن كل محاولات إنعاشها باتت لا طائل من ورائها“.

ولم يكن هيرش وحيدا في الدعوة لفك احتباس وضع الضفة انطلاقاً من شخص رئيس السلطة.

صحيفة ”إيكونوميست“ صدّرت نسختها المطبوعة الأخيرة بتقرير يتساءل: ”لماذا يصر عباس على البقاء في وظيفة لا يبدو أنه يستمتع بها؟ لقد فوض (عباس) العديد من مسؤولياته لمساعدين، رغم أنه لا يسيطر على أي شيء خارج مجمّعه“ (وتقصد بذلك مقره الرئاسي المسمى بـ المحافظة).

ما الذي تريد إسرائيل قوله أو الإيحاء به وهي تعلن أنها يئست من عباس وأنها مضطرة للوساطة مع بعض العواصم العربية، من أجل إقناعه بأن يتحرك قبل أن تسيطر حماس والجهاد الإسلامي على المشهد الفلسطيني المسلح؟

مَن يصدق أو يأخذ بالمثل العبري الذي يؤمن بأن ”الحدس أوثق من العقل“، سيجد نفسه على بعد متر فقط من الشك بأن إسرائيل تعدّ لعباس (87 سنة) مصيراً لا يختلف إلا في التفاصيل الصغيرة عن المصير الشائع أنها كانت قد دبرته لسلفه ياسر عرفات عندما استهلك دوره، مع فارق أن مصير سلطة رام الله في اليوم التالي لغياب عباس سيكون كابوسياً في صراع مدجج مرير بين الطامحين لخلافته، يكرر ما حصل في ليبيا بعد القذافي، وفي اليمن بعد علي صالح.

زر الذهاب إلى الأعلى