هل تنتج الحرب الأوكرانية إسرائيل أوروبية
بقلم: عيسى الشعيبي
النشرة الدولية –
بعيداً عن قائمة الخسائر الطويلة للحرب الجارية في اوكرانيا، منذ نحو سبعة أشهر حافلة بالدماء والدمار والدموع، وبصرف النظر عن السجال المحتدم حول وجاهة المبررات المسوّغة لحرب طالت أكثر من التوقعات، يمكن حصر النقاش المجدي، وتكثيف الضوء الشديد ليس فقط علىجانب الأرباح والخسائر التكتيكية لهذا الطرف او ذاك، وانما على الأخطاء الاستراتيجية عميقة الغور، باهظ الكلفة، وواسعة المضاعفات، التي ارتكبتها موسكو في حرب تبدو الآن بلا نهاية وشيكة، ومن ثمة استشراف اهم النتائج طويلة الأمد لأم المعارك الروسية في زمن ما بعد الاتحاد السوفياتي، سيما وان تداعيات هذه الحرب فاضت عن حدود البلدين المشتبكين بالحديد والنار، الى دول العالم كله.
ما يخاطبنا نحن من هذه الحرب ليس امراً افتراضياً، ولا هو من بنات خيال جامح، يجعل من الحبة قُبة، بل هي حقيقة في طور التشكّل، بشّر بها الرئيس الاوكراني المعجب بالتجربة الصهيونية، وألح عليهافلادومير زيلنسكي في بداية الغزو الروسي لبلاده، حين دعا حلفاءه في الغرب الى تحويل أوكرانيا، بالدعم والمساندة،الى إسرائيل أوروبية كبيرة، تماثل نظيرتها الشرق أوسطية بالقوة العسكرية النوعية المتفوقة على جميع جيرانها، وبالقدرات التكنولوجيةـالتي جعلتها بمثابة حاملة طائرات أميركية غير قابلة للغرق، ترابط في أكثر البحار دفئاً، قبالة اغنى أراضي الدول ثروة نفطية وغازية.
ولا احسب ان زيلنسكي، الممثل الكوميدي المغمور قبل الحرب، وقد صيّرته الحرب بطلاً قومياً، وزعيماً دوليا تصغي له برلمانات أوروبا وأميركا، كان معنياً في تلك اللحظة العصيبة بتقريظ مثله الأعلى الهجين في ديارنا العربية، او كان يبعث برسائل مفتوحة لنا نحن العرب، وانما كان يبث لواعجه على أثير البث التلفزيوني المباشر الى روسيا، بعد ان غزته واحتلت خُمس أراضي بلاده، ان لم نقل انه كان ينذر جارته القوية الكبيرة، ويتوعدها بالويل والثبور عاجلاً، وعظائم الأمور آجلاً، اثر تدفق الأسلحة الغربية الى جيش لم يحسب الكرملين له حساباً، حيث صار في وسع المستهدف في كييف ان يهدد اعداءه بالفم الملآن، وان بُهوّل عليهم بمضاء أشد، بعد ان اشتد عود قواته قليلاً، وصمد شعبه في وجه الآلة الحربية الروسية الهائلة.
بعد نحو 200 يوماً من الحرب الطاحنة، تبدو أوكرانيا مختلفة كثيراً عما كانت عليه قبل الغزو، حيث تتجلى لديها اليوم عناصر قوة حربية جديدة، وتتراكم على ارضها عوامل تفوّق نوعي مكتسبة حديثاً، الامر الذي نقلها من حالة الدفاع المتراجع، الى وضعية الهجوم التكتيكي الناجح، على نحو ما اظهرته معركة استرداد مقاطعة خاركيف، سواء كان ذلك بفضل كفاءة مقاتلين يخوضون حرباً وجودية، او كان بفعل تكنولوجيا الجيل الخامس المتطورة، وهو ما شكّل نقطة فارقة في مسار هذه الحرب الضروس، وسجل سابقة عسكرية مهمة، لا تكمن في أهمية خاركيف ذاتها، وانما في كونها انتصاراً جزئياً ضد ثاني أكير جيش في العالم، كان يثير رهبة أوروبا كلها.
اذا ما استمرت مثل هذه المكاسب العسكرية الأوكرانية المتفرقة، وهو ما بات واقعياً الآن، وتراكمت هذه الإنجازات على المدى المتوسط، فان ذلك سيضع روسيا امام متغير لم يخطر على بال فلاديمير بوتين، وهو يخطط لمعركة سريعة وحاسمة تنتهي في غضون أيام قلائل، ومن ثمة فان هذا المتغير سوف يشكّل أكبر خسارة استراتيجية بعيدة المدى للروس، الذين كسبوا عدواً جديداً، قوامه نحو 80 مليون كاره لجار اثخن جراحهم، ونحو 645 الف كيلو متراً مربعاً، اين منها مساحة دولة الاحتلال الإسرائيلي، المفتقرة لمثل هذين العنصرين الحيويين، ونعني بهما الجغرافيا والديمغرافيا، اللذين يكوّنان اهم نقاط الضعف الاستراتيجي لدولة بنت قوتها على اجنحة الطائرات الحربية.
ويمكن للمرء ان يعدد بلا تحفظ سلسلة طويلة من الخسائر الروسيةفي الشوط الأول من حرب ذات أشواط غير معروفة سلفاً، الا ان اشد هذه الخسائر وقعاً على مستقبل الاتحاد الروسي، كامنة في تحويل أوكرانيا من جار غُلب على امره قبل 8 سنواتفي معركة شبه جزيرة القرم، ورضي واقعياً بالهزيمة، الى دولة من فصيلة النمور العسكرية الضارية، خرجت من معمودية النار والدم بعصبية قومية متطرفة، وغدت قادرة على الهجوم والمباغتة، وتحوّلت من بلد باهت الحضور والهوية، يراه بوتين احد أخطاء التاريخ واجبة التصحيح، الى دولة تحاكي إسرائيل المتمكنة من فرض نفسها على المحيط المجاور، واملاءارادتها على العرب، اعتماداً على اميركا وعلى قوتها العسكرية الذاتية.